جذور وتطورات النزاع الإقليمي السني ـ الشيعي (2 من 2)
كما أشرنا في المقال السابق، فإن موجة النزاع المذهبي والطائفي السني – الشيعي التي راحت تجتاح المنطقة العربية وإقليم الشرق الأوسط نشأت في الأصل في العراق بدءاً من عام 2004 ثم راحت تتمدد إقليمياً لتصل إلى مستويات خطيرة منذ عام 2006. وقد تتابعت مشاهد وأحداث التوتر المذهبي والطائفي السني – الشيعي بعد انتقاله إلى المستوى الإقليمي سواء على الصعيد الرسمي أو الشعبي أو الإعلامي، حيث أضافت إليه مزيداً من الوقود الذي زاد بدوره من اشتعال نيران الفتنة.
وخلال العام الأخير منذ صيف 2006 لعب حدثان الدور الأبرز في احتدام تلك الفتنة، كان أولهما هو الحرب التي شنها الجيش الإسرائيلي على لبنان في 12 تموز (يوليو) 2006 بعد قيام حزب الله الشيعي المذهب باختطاف جنديين منه وقتل ثمانية آخرين. فقد أثارت تلك الحرب حوارات وخلافات واسعة في المنطقة كلها وخصوصاً في العالم العربي على مستويات عديدة منها ما تعلق بحق حزب الله في شن هجماته على القوات الإسرائيلية بما أدخل بلاده في حرب واسعة مع إسرائيل، ومنها ما تعلق بقضية التوتر الشيعي ـ السني في المنطقة والدور الإيراني فيها. وعلى المستوى الأخير راجت في بعض الأوساط الرسمية العربية وبعض النخب والجماعات الإسلامية السنية رؤية لتلك الحرب باعتبارها حرباً بالوكالة سعت إيران إلى إشعالها عن طريق حزب الله لتدعيم نفوذها الإقليمي ونشر المذهب الشيعي بين الغالبية السنية في المنطقة عبر إعجابهم بنموذج حزب الله المقاوم لإسرائيل. وقد بدا واضحاً أثناء الحرب أن هذه الرؤية لم تجد طريقها للانتشار والتأييد الجماهيري الواسع لها بين الأغلبية السنية في المنطقة، التي أيدت بشدة موقف هذا الحزب وعبرت بوسائل عديدة عن وقوفها إلى جانبه في مواجهة العدوان الإسرائيلي. ومع ذلك فبعد انتهاء الحرب عادت من جديد إلى مختلف وسائل الإعلام في المنطقة وفي مواقف وتصريحات كثير من المسؤولين العرب وقطاعات من النخب المختلفة التخوفات من النفوذ الإيراني في المنطقة ومعه التوسع المذهبي الشيعي على حساب الأغلبية السنية. وقد ترافق مع تلك الموجة الواسعة من تبادل الاتهامات على الصعيد الإقليمي بين بعض الدوائر السياسية والنخبوية السنية والشيعية تصاعد هائل في الصراعات الدموية بين مختلف الجماعات المسلحة المنتمية للمذهبين بداخل العراق وسقوط آلاف الضحايا المدنيين من الجانبين.
أما الحدث الثاني فقد كان مشهد الإعدام الدموي للرئيس العراقي السابق صدام حسين المنتمي للمذهب السني يوم 30 كانون الأول (ديسمبر) 2006. فقد بدا هذا المشهد بدلالاته المذهبية الواضحة كانتقام "شيعي" من رمز "سني" المستفزة لمشاعر السنة في العراق ومختلف دول الإقليم ليؤدي إلى تزايد حدة التوتر الشيعي ـ السني بداخل العراق وعلى الصعيد الإقليمي ووصوله إلى أعلى مستوياته. فقد أدى مشهد وتوقيت إعدام صدام إلى إعادة تقديمه بصورة لم يقدم بها هو نفسه أثناء حياته الطويلة المعقدة المراحل، حيث بدأ طرحه كرمز ديني للطائفة السنية، وهو التقديم الذي أتى على خلفية المشهد الطائفي المذهبي العراقي والإقليمي ليؤدي إلى زيادة التشدد وحتى التطرف على الجانب الآخر السني الذي توجهت بعض من قطاعاته نحو اعتبار أن "عدوها" هو كل "الشيعة" الذين نفذوا ذلك المشهد المستفز. وعلى الصعيد الإقليمي أدت تداعيات هذا المشهد الطائفي والمذهبي لإعدام صدام حسين إلى تراجع ملموس في شعبية حزب الله اللبناني الشيعي الذي قدم نفسه طوال سنوات تاريخه كجماعة للمقاومة العربية – الإسلامية ضد عدوان الدولة العبرية، والذي حظي بأوسع شعبية بعد حربه معها في صيف 2006، بما أدى إلى عزله عن بعض من مؤيديه الكثيرين من أبناء السنة في العالم العربي. وفي هذا الإطار فلا شك أيضاً أن قيام بعض دول المنطقة الرئيسية، وأبرزها إيران، باستخدام كل الأوراق التي تملكها في المنطقة وفي مقدمتها ورقة الكتلة الشيعية الكبيرة في العراق لكي تواجه بها السياسات الأمريكية الموجهة ضدها، قد فاقم بشدة من الوضع المذهبي والطائفي في المنطقة عموماً وفي العراق خصوصاً ودفع به إلى حلبة الصراع المسلح الخطر، وبخاصة عند وقوع ذلك الاستخدام في أخطاء قاتلة مثل إعدام الرئيس السابق صدام حسين في التوقيت والمشهد اللذين تم بهما بكل ما أدى إليه من تداعيات مذهبية وطائفية على المستويين العراقي والإقليمي.
بعد ذلك الاستعراض للتطورات الرئيسية لقضية التوتر المذهبي والطائفي بين السنة والشيعة على الصعيدين العراقي والإقليمي في ارتباطهما ببعضهما يطرح نفسه السؤال الكبير الذي يخيم اليوم على الجميع في العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط بكل تركيبهما المعقد دينياً ومذهبياً وعرقياً ولغوياً وهو: ما هو مستقبل تلك النزاعات والصراعات ومدى تأثيرها في مستقبل هاتين المنطقتين شديدتي الأهمية والحساسية بالنسبة للعالم كله؟ وهنا قد تبدو الإجابة الأكثر ترجيحاً أقرب للتشاؤم، حيث إن العوامل السابق ذكرها المؤججة لتلك النزاعات والصراعات تبدو قابلة للاستمرار خلال الفترة المقبلة بل ربما تزداد حدتها وبخاصة تلك المتعلقة بالسياسات الأمريكية وبعض دول الإقليم، فضلاً عما تولده تلك النزاعات والصراعات نفسها من مزيد من الانكفاء لدى معظم الجماعات المتنازعة والمتصارعة على انتماءاتها وهوياتها الأولية وتغذية ذلك بمزيد من استدعاء أسوأ وقائع التاريخ فيما بينها.