«كاريزما» سعود الفيصل .. والدبلوماسية الشاملة

«كاريزما» سعود الفيصل .. والدبلوماسية الشاملة

من يتابع هذه المحبة الجارفة والمستمرة التي حظي بها وداع عميد الدبلوماسيين وأقدم وزير خارجية في العالم، رسميا وشعبيا، محليا ودوليا، يتأكد أن هناك سرا يخص هذا الرجل ويخص منهجه الدبلوماسي الذي أوصله إلى هذه الحفاوة والتقدير. فعلى المستوى الدولي هناك حقيقة تصب في أن الدبلوماسية السعودية بقيادة وتأسيس الراحل سعود الفيصل تعمل على أحدث الأسس العلمية ولمصلحة وطنية واحدة. حيث لم تفلح كثير من المحاولات العدائية في هز الثقة بالدبلوماسية السعودية بقدر ما عززت الموقف الإيجابي منها ومن قائدها الراحل، فما سرها وسره؟
السر بحسب ما يشير إليه كثير من الشهادات الحية اليوم يكمن في روح سعود الفيصل وما عمله، إنسانيا وإداريا، داخل هذه المؤسسة، على مدار سنين طويلة، على المستويين المحلي والخارجي (بصفتها وزارة تتعاطى مع المحلي بالقدر ذاته الذي تتعاطى فيه مع الخارجي السياسي). "سر سعود" وسر عمله ونجاحه لا يمكن إدراكه إلا بأعين محبي التهذيب والسلام حول العالم. ففي إطار نعي صحيفة "نيويورك تايمز" تصف الصحيفة شيئا من سر الراحل ما نصه: "وزير خارجية العرب، الدبلوماسي المهذب الذي كان مقنعا حين يطل بربطة العنق الغربية أو متألقا في الزي السعودي التقليدي، كان قويا وهادئا ومتحدثا لبقا يحقق أهدافه ببراعة ويلعب دور الوسيط المحبوب بين الجميع بعيدا عن أعين الجميع". وهو السر ذاته الذي لم تخفه رئيسة الوزراء مارجريت تاتشر بعد لقائها الأول معه: "هذه الألمعية المدهشة التي تبرز عنده هي مزيج من أصالة وصفاء البادية ومن حداثة المدينة وكلها اجتمعت في شخصه كأمير ودبلوماسي".
"سر سعود" يدركه الغريب قبل القريب لسبب بسيط أنه ليس هناك ما يستوجب الخفاء والإخفاء. هناك فقط عمل دبلوماسي وسياسي دؤوب ينزع للتطوير والتحديث دائما. عمل يلمسه وينثر حكاياته اليوم بعد رحيله كل من عمل مع هذا الرجل. فالحقيقة التي يجمع عليها من عملوا معه عن قرب أن الرجل لا وقت للإطراء والمجاملات لديه، بينما الكثير من الوقت للعمل والعمل فقط.
يذكر أنه وفي خطابه أمام الشورى، كأول وزير في الحكومة الجديدة، يجتمع بأعضاء الشورى، استعرض الفيصل السياسة الخارجية والدبلوماسية للمملكة، مؤكدا أنها لم تتغير من حيث الثوابت التي تقوم عليها قيميا وشرعيا منذ انطلاق الدولة السعودية الحديثة إلا أنها أيضا لم تغفل الجانب التطويري من حيث الانتقال من الدبلوماسية التقليدية المحدودة بين الدول والحكومات إلى ما اصطلح على تسميته الـ"الدبلوماسية الشاملة". كما أشار الفيصل إلى اهتمام الخارجية بتطوير الدراسات والبحوث وبالعنصر البشري الوطني عموما، إضافة إلى تمكين المرأة السعودية خصوصا.
الدبلوماسية الشاملة التي تطرق لها الفيصل في حديثه للشورى تعد اليوم من أهم معالم الدبلوماسية المعاصرة وأولها بحسب المختصين. ففي هذا النوع من الدبلوماسية Total Diplomacy لم يعد الدبلوماسي قانعا بممارساته التقليدية من حفلات ومآدب عشاء وغذاء واستقبالات أو بكتابة التقارير والتحليلات والتنبؤات، إنما يصبح الدبلوماسي هو الذي يدير وينسق نطاقا عريضا من النشاطات والاهتمامات العريضة للبلد، حيث يمكن القول إن الدبلوماسي الحديث أو الشامل يجب أن يتوقع معالجة كل مظاهر الحياة البشرية، الثقافية والسياسية، إذ إن كل مظهر للوجود البشرى أصبح اليوم تقريبا له بعض الأبعاد الدولية، "الأمر الذي جعل من الدبلوماسية التي كانت يوما ما عملا بسيطا عملية معقدة ليس فقط نتيجة للعدد المتزايد من المشكلات والقضايا المعقدة والمتشابكة التي تواجه الدول والمجتمع الدولي وإنما أيضا نتيجة للعدد المتزايد من الدول".
واعتمادا على هذا التوجه الشامل كانت اختيارات الفيصل، منذ البدء، للعاملين معه تأتي متنوعة، من جميع الحقول الأكاديمية والإعلامية والأمنية، ليدير كل هذا الخليط بعين ثاقبة فيها أيضا سر من أسرار القيادة الذي لا يمكن تسريبه ولكن يمكن بكل حب تعميمه وتعليمه. إذ كان الفيصل قدوة لكثير من الشباب والأساتذة في السلك الدبلوماسي. كما كان سببا لحب وتعلق كثير من الشباب من الجنسين بهذا العمل رغم كل ما فيه من تنقل وغربة.
عمل سياسي ودبلوماسي دؤوب لم يقطعه يوما حتى الألم فـ "لا وقت للألم" وهذا أيضا من أسرار سعود القاسية التي يدركها كل من عايش وشاهد هذا الرجل متحاملا على نفسه ومتحملا في آخر السنوات من عمله آلاما لا تطاق خدمة لقيادته وشعبه فكان نعم المخلص والأمين.
"سر سعود" ومنهجه والدبلوماسي أعقد وأبسط من أن يدرك في الوقت ذاته، أعقد لأنه كتب بلغة خاصة؛ بلغة السلام العالمي الذي عمل من أجله هذا الرجل طويلا. وأبسط لأنه لامس قلوب الكثيرين غربا وشرقا، صغيرا وكبيرا، فأتوا من كل مكان معزين ومودعين لإنسان لطالموا شهدوا على طيب سيرته ومسيرته في مواقف كثيرة فكان أقل الواجب أن يبادلوه اليوم ذلك الطيب بهذا الوفاء.

الأكثر قراءة