العصا.. أول أداة عرفها الإنسان.. قصص وأمثال
قال الله جل وعلا، {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا موسى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى}. وقد كانت هذه الآية الكريمة أحد أهم أسباب اهتمام العرب بموضوع العصا. فلقد اهتم الأوائل بالكتابة عن العصا، فكتب فيه الجاحظ فصلا مطولا، وكتب غيره، كما ألف عنه أسامة بن منقذ كتابا مستقلا، وأيضا كتب في ذلك أبو العلاء المعري، كما جميع الميداني في مجمع الأمثال عددا كبيرا من أمثال العرب في العصا، ومثله الزمخشري وغيرهما. وما سبب اهتمام كل هؤلاء العلماء بموضوع العصا إلا لأنه يحتوي على معلومات مهمة في موضوعات متعددة، فهو يدخل في باب تفسير القرآن الكريم، لورود ذكر العصا مرارا في الكتاب العزيز، كما يدخل في باب شرح حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وردت أحاديث كثيرة عن العصا، كما يدخل موضوع العصا في موضوعات اللغة، وعلم النبات، والتاريخ، وفن الأوائل، وغيرها من الفنون. أضف إلى ذلك أن في هذا الموضوع مُلحا ونوادر يطرب لها السامع، وتشنف آذانه، ويستمتع بها القارئ.
فالعصا قد تكون أول أداة عرفها الإنسان بعد الحجر، بها صاد الحيوانات، وقطف الثمار التي لا تطولها يده، ودافع بها عن نفسه. والعصا عصا موسى عليه السلام، ومنسأة سليمان عليه السلام، ودرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
لقي الحجاج أعرابيا بيده عصا، فسأله عنها وعن فوائدها، فأجاب الأعرابي، "أركزها لصلاتي، وأعدها لعداتي، وأسوق بها دابتي، وأقوى بها على سفري، وأعتمد بها في مشيتي لتتسع خطوتي، وأثب بها النهر، وتؤمنني من العثر، وألقي عليها كسائي فيقيني الحر، ويدفئني من القر، وتدني إلي ما بعد مني، وهي محمل سفرتي، وعلاقة أداوتي، أعصي بها عند الضراب، وأقرع بها الأبواب، وأتقي بها عقور الكلاب، وتنوب عن الرمح في الطعان، وعن السيف عند منازلة الأقران، ورثتها عن أبي، وأورثها بعدي ابني، وأهش بها على غنمي، ولي فيها مآرب أخرى، كثيرة لا تحصى".
###في الأمثال الفصيحة:
ورد ذكر العصا في أمثلة كثيرة عند العرب جمعتها كتب الأمثال القديمة، وأكثر من استقصاها هو الميداني في كتابه الرائع "مجمع الأمثال"، الذي لم يؤلفه مثله في موضوعه، حتى إن الزمخشري حين ألف كتابه "المستقصى في الأمثال" ورأى بعدها كتاب الميداني ندم على تأليف كتابه كما يروى. ومن بين هذه الأمثال، إنَّ الْعَصَا مِنَ الْعُصَيَّةِ، يضرب في الجليلَ يكون في بَدْء أمره صغيرا. وقولهم، إنَّكَ خَيْرٌ مِنْ تَفَارِيقِ العَصا، يضرب فيمن نَفْعُه أَعَمَّ من نفع غيره. وقولهم، إنَّ العَصا قُرِعَتْ لِذِي الْحِلْم، يضرب لمن إذا نُبِّه انتبه. وقولهم، "شَقَّ فُلاَن عَصَا المُسْلِمينَ"، يضرب مثلا لكل فرقة. وقولهم، "العَبْدُ يُقْرعُ بالْعَصَا والحُرُّ تَكْفيِهِ الإشَارَةْ"، واضح المعنى. وقولهم، "قَدْ ألقى عَصَاهُ، إذا استقرَّ من سَفَر أو غيره".
###في الأمثال العامية:
أما الأمثال العامية فكثيرة، وخاصة السودانية، ومن هذه الأمثال السودانية، 1 - الدخول بين العصا والقرفة، قلة عرفة، العصا والقرفة، درجه قرابة لصيقة بين شخصين مثل الأخ والزوجة. ومن العقل ألا يتدخل الإنسان بين هذين الشخصين للوقيعة بينهما. 2 - إنْ قِوىَ المِحْجَام يتربى الَبَهم، والمحجام هو العصا الطويلة المحنية في رأسها، التي يستخدمها الراعي لإسقاط زهور الأشجار أو ثمارها لترعاها البهائم. البهم، صغار البهائم من ضأن وماعز. والمعنى، إذا قويت أسباب الرزق تواصلت الحياة بسهولة وبلا متاعب. 3 - "البَدَيك بالنَّبوُتْ أدْو بالشَلُّوتْ"، الذي يعتدي عليك بالغ في الاعتداء عليه حتى لا يشجعه العفو عنه بالتمادي في إيذائك، أما النبوت فهو العصا الكبيرة، والشلوت، الضرب بالقدم. 4 - "ماسِك العصا من نُصَّها"، بمعنى لا يستخدمها ولا يريد أن يتخلى عنها فهو يتردد بين موقفين ويتنقل بين رأيين.
ومن الأمثال الشامية قولهم، "هوب بعصاية العز وما تضرب فيها، واضرب عصايتك وأجري وراها". ومن الأمثال الفلسطينية، "بيرمي العصاية قدام الراعي، وعصاية المجنون خشبة". ومن الأمثال الأردنية، "الصايم بلا صلاة زي الراعي بلا عصاه". ومن الأمثال الجزائرية، "أضرب النسا بالنسا ماشي بالعصا". وهو شبيه بالمثل السعودي، "اضرب النساء بالنساء والهجن بالعصا". ومن الأمثلة السعودية والخليجية، "إذا أطـْرَيْت الكلب فـوَلّم العَصَا"، وقولهم، "مَقْرَط العَصَا" ويقال "حذفة عصا". ومن الأمثلة المغربية، "الغضبانة بلا عصا الرجعانة بلا نسا"، يضرب للمرأة المتخبطة في أمورها فلا تعرف متى تغضب ولا متى تتراجع عن غضبها.
أما ما ورد عن العصا في الشعر النبطي فسأتناوله في موضوع مستقل لاحقا.
###معركة العميان بالعصيان"
ومن أطرف أخبار العصا وقصصه تلك المعركة التي شهدها أسامة بن منقذ في دمشق، وذكرها في كتابه العصا، إذ قال، "حضرت بدمشق وقد وقع بين العميان وبين رجل كان يتولى وقفهم يعرف بابن البعلبكي خلف، فبقوا فيه صاحب دمشق شهاب الدين محمود بن تاج الملوك بوري رحمه الله عدة مرات، فقال للأمير مجاهد الدين بوزان بن مامين، أي مجاهد الدين، بالله خلصني منهم، وأجمعهم وأحضر نائبهم في الوقف وأفصل حالهم. فقال، السمع والطاعة. وقال لي مجاهد الدين، تفضل وأحضر معنا. فاجتمعنا في إيوان كبير في دار، وحضر النائب ابن البعلبكي ونائب كان قبله يقال له ابن الفراش، وحضر العميان في نحو من ثلاثمائة رجل، فحملوا أقدمهم ودخلوا الإيوان، كل واحد وعصاه معه في يده وضعها إلى جنبه، ثم تجاروا الحديث، فكان بعضهم هواه مع النائب الأول ابن الفراش، وبعضهم هواه مع ابن البعلبكي. فتنازعوا وتخاصموا ساعة ولا يتدخل بينهم لعلو أصواتهم وكثرتهم، ثم تواثبوا فارتفع في الإيوان نحو من ثلاثمائة عصا في أيدي عميان لا يدرون من يضربون. وعلا الضجيج والصياح حتى ندمت على حضوري. فتلطفنا الأمر حتى سكنت الفتنة بينهم، ومشينا أمرهم على ما أرادوا، وما صدقنا أنهم ينصرفون".