«التجارة العالمية» لـ"الاقتصادية" : الجهاز القضائي في المنظمة معرض للخطر بسبب التدخلات السياسية

«التجارة العالمية» لـ"الاقتصادية" : الجهاز القضائي في المنظمة معرض للخطر بسبب التدخلات السياسية

عندما تفشل الدول في التفاوض لحل مشكلاتها التجارية، لن يبقى لها سوى اللجوء إلى القضاة. هذا هو الحال الآن، فالبلدان الأعضاء في منظمة التجارة العالمية أخذت تستخدم أكثر فأكثر السلطة القضائية للمنظمة في مقرها في جنيف. لكن هذا الجهاز الذي يُعد فخر الدول الأعضاء في المنظمة، يعاني مشكلات عديدة، تسعى المنظمة إلى إصلاح بعضها خلال عام 2015.
 أربع مشكلات رئيسة تلقي بظلالها على الجهاز القضائي للمنظمة: الأولى عبء العمل المفروض على القضاة، والثانية، محاولات الدول الأعضاء الالتفاف على أحكام القضاة، والثالثة الخلل في التركيبة الهيكلية في الجهاز القضائي نفسه، وأخيراً مسألة اختيار القضاة أنفسهم. لا ينتظر المختصون أن تحقق الأمانة العامة للمنظمة أي نجاح يذكر لحل هذه المشكلات، وإذا حققت نجاحا، فسيكون في نطاق الأولى فقط، فالمشكلات الأخرى تتعلق بالهيكل الدستوري للمنظمة.
 تسلط “الاقتصادية” في التقرير التالي الضوء على التعقيدات والمساومات المتعلقة باختيار قضاة المنظمة.
 كلما قلَّ التفاوض بين البلدان، ازداد لجوؤها إلى المحاكم، وهذا هو الواقع اليوم، فمنذ تأسيس المنظمة عام 1995، لم يتم أبداً إبرام اتفاقية متعددة الأطراف بخلاف اتفاقية تيسير التجارة، وهكذا وجدت أكبر محكمة تجارية في العالم نفسها وسط طوفان من الشكاوى. سجل عام 2014 تأسيس 30 هيئة قضائية (تضم كل واحدة منها ثلاثة مختصين للبت في قضية واحدة عندما يفشل الطرفان، أو الأطراف المتنازعة في حل النزاع التجاري بينهما / بينها).
 من إعاقة واردات جبن روكفور، إلى تعبئة وتغليف الطماطم الطازجة، مروراً بالرسوم المفروضة على أنابيب الفولاذ، إلى المنتجات المشتقة من الفقمة، أو تصدير قمصان الكتان، إلى النزاع القائم بين “بوينج” و”إير باص”، لا توفِّر الشكاوى المقدمة لمنظمة التجارة العالمية أي ميدان من ميادين الحياة اليومية. على الرغم من ذلك فالنظام القضائي في المنظمة يعيش حاليا فترة صعبة.
 
هم في الأوقات العادية، سبعة قضاة. لكن منذ أكثر من عام، لا يعمل الجهاز القضائي في المنظمة سوى بستة أعضاء. السبب: أن الدول الأعضاء غير قادرة على الاتفاق لاختيار خلف للقاضي الجنوب إفريقي، ديفيد أونتيرهالتير، الذي خرج من منصبه بعد انتهاء ولايته الثانية في 11 كانون الأول (ديسمبر) 2013، وهو وضع لم يسبق له مثيل في تاريخ منظمة التجارة، طبقاً لما قالته، فاليري هيوز، مديرة الشؤون القانونية في المنظمة لـ “الاقتصادية”.
أين هي المشكلة، هل هي خفيفة الوزن من نوع نقص في الموظفين؟ ليس الأمر كذلك، المسألة تتعلق باستقلالية المحاكم التجارية في المنظمة بوجه التدخلات السياسية. في نهاية المطاف، مثل هذه التدخلات تُعرِّض الجهاز القضائي في المنظمة للخطر.
 في شباط (فبراير) 2014، أقرت الدول الأعضاء في المنظمة إخفاقها في اختيار خلف للقاضي الجنوب إفريقي، ما دفع رئيس هيئة تسوية المنازعات، فيرناندو دو ماتيو، (سفير المكسيك لدى المنظمة)، إلى دعوة الدول الأعضاء إلى التدخل لإنقاذ الهيئة من المأزق.
لكن الدول الأعضاء لم تتمكن في الاتفاق على واحد بين أربعة مرشحين ليكون خلفاً للقاضي الجنوب إفريقي. بعدها تم تأسيس لجنة اختيار أخرى رأسها هذه المرة، جوناثان فرايد، الرئيس السابق للهيئة، وهي سابقة لا مثيل لها في تاريخ التعيينات في منظمة التجارة.
المرشحون الأربعة، هم: عبد الحميد ممدوح، مدير قسم تجارة الخدمات في منظمة التجارة، وهو مواطن مصري، وجيمس ثو كاتهي، بروفيسور القانون الدولي في جامعة لويولا في شيكاغو، وهو مواطن كيني، ويونكونك نكانكجو هودو، المحاضر في جامعة مانجستر، وهو من الكاميرون، وجوان فيتزنري، محامية في القانون التجاري ومتخصصة في قضايا الإغراق، وهي أسترالية.
وطبقاً لمعلومات “الاقتصادية”، اعترض الاتحاد الأوروبي على تعيين ممدوح قائلاً إنه يريد مرشحاً يتمتع بخلفية أكاديمية، ومن خارج نظام منظمة التجارة، وأيضاً من إفريقيا السوداء ليس من البلاد العربية في إفريقيا، فيما اعترضت الولايات المتحدة على مرشح كينيا، كاتهي، على خلفية كتابته مقالاً في مجلة قانونية بريطانية عام 2005 قال فيه إن النظام التجاري العالمي “مصطنع ومشوه” لمصلحة الدول المتقدمة، وإنَّ نظام تسوية المنازعات في المنظمة ينحاز لمصلحة الدول الغنية.
 
أما المرشح الثالث (الكاميروني) فقد أخفق في الحصول على إجماع يؤيِّده بعد أن نُظِر إليه على أنه غير مؤهل بما يكفي للمنصب. وأمام إصرار الدول الإفريقية على أن منصب، أنترهالتر، ينبغي أن يُملأ من قِبل مواطن إفريقي بسبب افتقار الهيئة إلى قاض من القارة السمراء، أعلنت أستراليا سحب مرشحتها.
عقب ذلك، جرت إجراءات ثالثة للاختيار بعد أن رضخت كينيا إلى سحب مرشحها وتقديمها مرشحة في شخص، باتريسيا كاميريمبوتي. في النهاية، وبعد سلسلة طويلة من الاختبارات والمساومات الثنائية بقي من المرشحين والبلدان: ممدوح، من مصر، وكاميريمبوتي، من كينيا، وشير بابو سيرفانسنك، من موريشيوس، وآخرون من زيمبابوي، وأوغندا وغانا. وحسب القاعدة غير الرسمية للتمثيل الجغرافي فمنصب القاضي ينبغي أن يعود إلى أحد المواطنين الأفارقة. غير أن المنصب لم يذهب لأي من المرشحين، وبقي شاغراً منذ أكثر من عام بسبب المساومات السياسية.
“نصيحتي للحصول على فرصة كي تصبح عضوا في هيئة قضاة منظمة التجارة ألَّا تكتب أبدأ مقالة تنتقد فيها القضاء التجاري في جنيف،” هذا ما قاله كاتهي في مقالة كتبها في المجلة الأوروبية للعلاقات الدولية عقب إعلان انسحابه من الترشيح قبل عدة أشهر. وأضاف هذا الشاهد: “دول ذات نفوذ تأكدت من استقامتي، ومزاجي القانوني، ومدى نزعتي إلى التوافق، وما إذا كنت أصل بسهولة إلى وجهة نظري أو على العكس من ذلك، وما إذا كنت ميالاً للموافقة أو إظهار المعارضة، وكانت جميع الأجوبة لمصلحتي”.
عن هذا الموضوع، تقول الأمانة العامة للمنظمة أن إجراءات تعيين أعضاء هيئة الاستئناف أخذت، في السنوات الأخيرة، شكل محادثات غير رسمية، تماثل تقريباً اختيار المدير العام للمنظمة، الفرق الوحيد هو أن لا أحد يمكنه الحديث عن تعيين، بل يتم فحص عناصر معينة ما إذا كانت موجودة أو غير موجودة في المرشح. غير أن المختصين بشؤون المنظمة يؤكدون أن أغلب الدول الأعضاء تدعم المرشحين الذين يمكن أن يخدموا مصالحها، أو أن القضايا القانونية الكبيرة، أو تلك التي تتناول موضوعات حساسة، لا تتعارض مع عقائد القضاة.
لا بد من معرفة أن بعض النزاعات التجارية، كالنزاع بين شركتي الطيران الأمريكية “بوينغ” والأوروبية “إير باص” تصل قيمتها إلى عدة مليارات من الدولارات. فعلى سبيل المثال طالب الاتحاد الأوروبي منظمة التجارة تخويله فرض “رسوم عقابية” سنوية بقيمة 12 مليار دولار على وارداته مِن الولايات المتحدة إذا أصدرت المنظمة حكماً لمصلحته. وطلبت الولايات المتحدة تخويلها فرض ما بين سبعة وعشرة مليارات دولار كرسوم عقابية سنوية على وارداتها مِن الاتحاد الأوروبي إذا أصدرت الهيئة حكما لصالحها.
يقول المختصون في شؤون المنظمة إن تأثير السياسة على القضاء داخل المنظمة صنوان لا ينفصلان، وهو أمر لا مفر منه في المنظمات كافة المؤسَّسة بموجب معاهدات دولية، وإن هذه الحقيقة تصبح أكثر واقعية عندما تكون المنظمة قادرة على فرض عقوبات، مثلما هو حال منظمة التجارة.
السؤال الحيوي: هل أن السلطة القوية التي تتمتع بها هيئة تسوية المنازعات تُخيف الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية؟ في حقبة منظمة “الاتفاقية العامة للتجارة والتنمية ـ جات”، سلف منظمة التجارة، كانت القرارات تستند إلى توافق الآراء حيث تجري خلالها مساومات. منذ عام 1995، تاريخ إنشاء منظمة التجارة، أصبحت القرارات تتخذ من قبل هيئة قضائية محترفة، وهذا ما يفسر حساسية الدول الأعضاء في تعيين أي شخص في الجهاز القضائي للمنظمة.  تقول سورايوت تشاسومبات، المختصة القانونية في البعثة الدائمة لتايلاند لدى منظمة التجارة لـ “الاقتصادية”: “على هذا المستوى العالي من المسؤولية الذي يتمتع به الجهاز القضائي للمنظمة، فإن أي مرشح ليس له حظ من الوصول إلى الجهاز إذا لم يحصل على دعم من دول “معينة”.
لكن إذا ما ابتعدنا عن السياسة، وأخذنا الناحية الفقهية البحتة، فإن هذا الجهاز اكتسب، على مر السنوات، أهمية عظمى، لأن المواد التي تناقش أكثر تقنية مما يتصور البعض. ينبغي للقضاة في كثير من الأحيان إجراء مراجعات للتدابير المتعلقة بالسياسات غير التجارية، مثل الصحة، وحماية البيئة، وحقوق الملكية الفكرية، وغيرها. 

الأكثر قراءة