«السقا» .. رسالة تاريخية غيبها التطور
دائما ما تعبق مكة برائحة التاريخ والعراقة بكل تفاصيلها التي طوى التاريخ بعض ملامحها ومنها مهنة السقا التي أضحت أثرا بعد عين، بعد أن دخلت الأدوات الحديثة مجال سقاية ماء زمزم، وهو الأمر الذي خلق نوعا من التساؤل عن غياب مهنة اعتبرها المكيون رسالة تاريخية للسقاية والرفادة.
السقا هو حامل جرة الماء، أو ما تعارف أهالي مكة على تسميته، حيث اعتاد السقا الخروج كل يوم طائفا بالبيت الحرام، حاملا معه أوعية يصب فيها الماء للحجاج والمعتمرين، فضلا عن ندائه بصوت جهور "زمزم يا حاج.. زمزم ياحاج".
يحكي العم سالم المكي صفحات من تاريخ حياته في هذه المهنة، وهو يحمل على كتفيه "تنكتين" أي "صفيحتين" بواسطة عصا يضعها على كتفيه ويربط كل تنكة في طرف العود فيمشي بهما، ويبدأ السقا رحلته اليومية لملاحقة الظمأ على شفاه الناس وسكان الحارات القديمة.
#2#
ومن باب الشامية سابقا، وسوق الليل، كان يخرج السقا ممتطيا الطرق والأزقة ومرهقا من مارثون الصعود والنزول لخدمة الحجاج والمعتمرين الذين وفدوا على مكة من كل حدب وصوب، مستعدا بلباسه المكي التقليدي، الذي يعبر بالثقافة المكية إلى كل الأجناس والأعراق، موصلا لهم خدمة مجانية لفها الزمن بين طياته.
ويتحدث العم سالم عن الأداء الحركي الذي لا بد أن يتمتع به السقا، حيث كان لا بد وأن تتسم بمرونة اليد في تقديم أوعية الماء، وهي مهارة يجيدها السقا عن غيره، فهو يملأ صفيحته كل يوم عن بكرة أبيها بمياه زمزم المباركة، متجها بها إلى شعب مكة ليقترب بها من فم كل حاج وقاصد، يسامره ويلاطفه بجميل الكلام وعذبه، معتبرا أن حكاياته المقتضبة ترسم الفرحة على وجه الحاج والمعتمر.
#3#
وكانت تلك الأواني الفخارية والنحاسية، التي يحملها السقا، تحمل رسائل جمالية، فرغم البرودة التي يحملها ماء زمزم، فإنها في مكة تتسم بنكهة أخرى، وجمال آخر؛ حيث تحمل بعدا روحانيا يتجسد في عظمة مياه زمزم المحملة بالمعادن والأملاح، لتعوض الزائر عن حجم الجهد والتعب الذي بذله طائفا وساعيا.
ويضيف العم سالم أن السقا، الذي سن أول عمل تطوعي بجانب الرفادة في مكة نقل من بمهنته العريقة تاريخ وتراث المدينة المقدسة على مختلف الأزمنة والعصور ومعه اتسمت المهنة بعراقتها وأصالتها.
وتتفاخر معظم الأسر المكية في مختلف المراحل العمرية بمهنة السقا، باعتبارها نموذجا متفردا يحاكي شرفا مهيبا تتسابق عليه، إيمانا واعتقادا بأن تلك المهنة شرف لا يعلوه شرف، وتفاخر عظيم، يحاكي جمال الروح المكية التي اشتهر عنها أنها محبة للخير وباحثة عن الأجر والخير.
وتعد مهنة «السقا» أشبه برواية تناقلتها عيون الراصدين النهمة والمهتمة بالتراث وتوثيق تفاصيل الحياة، وهي مهنة قديمة كانت لها أصولها وحرفتها وعاشقوها، نقلتها كروت "البوستال" من خلال عدسة المصورين الأجانب والمستشرقين، الذين قاموا بتوثيق الحياة المكية، ولا سيما ومكة تعيش في وجدان الكثير، وفي أذهان أجيال عاصرته حتى دخلت المياه المدن والقرى، واندثرت تماما هذه المهنة من الوجود، ولكن بقي أثرها في أماكن سياحية، أو بعض المساجد العتيقة بأنحاء مختلفة من مكة المكرمة.
وحددت الأدبيات المتوارثة عن تاريخ السقاية في العاصمة المقدسة، أن يكون السقا رجلا كفئا، يمتلك أمانة بين أقرانه، يصب ماء زمزم بأمانة متناهية من منبعه، ولا يتخذ قربة جديدة حتى لا يتغير طعم الماء أو لونه أو رائحته من أثر الدباغة، وأن يكون لها غطاء ظاهر كثيف وساتر لها حتى يسلم الناس من تلويث ثيابهم.
كذلك يجب أن تكون القربة خالية من الخرق، لأن الماء ينقص وهذا غش، ولا يملأ الماء بالليل لتعذر الاحتراز فيه، وإن فعل فعليه أن يزيد في الاحتياط هذا بالإضافة إلى شروط كثيرة في آداب السير في الطريق ودخول البيوت وفي الملبس أيضا.