المؤسسات المانحة ومحور تنمية الجمعيات الخيرية

تشهد بلادنا تراكماً معرفياً في المسؤولية الاجتماعية للأفراد والشركات، كما تشهد في الوقت نفسه تراكماً كبيراً في الأوقاف والأثلاث والشركات التي باتت تنهض بمهامها الاجتماعية كمهمة جوهرية من مهامها. وبكل تأكيد فإن الجمعيات الخيرية العاملة في جميع مجالات الخير التنموي أو العلاجي أو التنموي والعلاجي معاً تشكل القنوات الخيرية المؤسسية التي يتجه إليها من يريد أن يتحمل مسؤوليته الاجتماعية من الأفراد والشركات.
ويعود توجه الأفراد الميسورين والشركات التي تنهض بمسؤوليتها الاجتماعية للجمعيات الخيرية ومن في حكمها لعدة أسباب أهمها الاعتقاد بأن هذه الجمعيات تعمل وفق نظام مؤسسي يحقق أعلى درجات الفاعلية والكفاءة في استخدام التبرعات النقدية والعينية وتحويلها لمنتجات تنموية وعلاجية للقضايا الاجتماعية، بل والمجتمعية بشكل عام كالعوز والحاجة والجهل والمرض والطلاق والعنوسة والبطالة والأبحاث والدراسات التحليلية والتنموية وغير ذلك كثير إضافة إلى كون هذه الجمعيات مرخصة من الأجهزة الحكومية المعنية وتخضع لرقابة تلك الأجهزة في مصارف أموالها، وبالتالي فإن المتبرع يشعر بالثقة وعدم الحرج وعدم الوقوع في المحذور وهو أن تتجه أمواله لغير ما خصصها له أو تمتد لأيدٍ تستغلها لمآرب أخرى.
ولاشك أن العمل الخيري في بلادنا تطور كما هو حال القطاعين الحكومي والخاص حتى بتنا نرى نموا كمياً ونوعياً في الأعمال الخيرية إلا أنه ومع الأسف الشديد فإن هذا النمو لم يواكب النمو في القضايا المجتمعية كماً ونوعاً سواء كانت قضايا صحية أو اجتماعية أو اسكانية أو تنموية أو غير ذلك، وكذلك لم يواكب التطورات الاقتصادية في البلاد، حيث تواجه الجمعيات اليوم تحديا كبيرا وهو انخفاض معدلات رواتبها مقارنة برواتب الفرص الوظيفية المتاحة للكفاءات السعودية من جهة، وانخفاض مستويات أدائها الإداري والفني، وبالتالي الخبرات التي يكتسبها الموظف أثناء العمل فيها من جهة، ولقد سمعت من أكثر من موظف وموظفة في العمل الخيري بأنهم يشعرون بالنظرة الدونية لهم من موظفي الدولة وموظفي القطاع الخاص باعتبارهم يعملون في مؤسسات غير عالية المهنية.
ضعف أو عدم المواكبة للتغيرات الاقتصادية من وجهة نظري يعتبر التحدي الأكبر للجمعيات الخيرية على اعتبار أن الموارد البشرية المؤهلة وعالية القدرات الإنتاجية والمهارات تعتبر الثروة الحقيقية لأي منشأة كما تعتبر المحرك الدافع الرئيس للإنجاز المتقن والنجاحات المتراكمة في تحقيق أهدافها وخدمة قضاياها ومعالجة المشاكل المجتمعية وهو الأمر الذي يحفز المحسنين الميسورين والشركات الخاصة للمزيد من العطاء والبذل والشراكة الحقيقية الفاعلة المستمرة.
أذكر أن إحدى الشركات رفضت دعم مشروع خيري كبير تقدمت به إحدى الجمعيات الخيرية رغم قناعة الشركة بأهميته وتوافقه مع استراتيجيتها في خدمة المجتمع وتوافر الأموال اللازمة لذلك، وكان سبب الرفض الخوف من عدم الاستدامة في تشغيل المشروع لضعف مستوى الأداء الإداري في الجمعية لأسباب متعددة أهمها انخفاض المستوى المعرفي والمهاري لموظفيها بالشكل الذي يحصنها من الفشل الناشئ عن التغير في قيادات أو موظفات الجمعية من ناحية والناشئ عن ضعف المستوى الإداري والفني للعاملين في الجمعية.
أعرف أن هناك جمعيات خيرية ومؤسسات وقفية ومؤسسات خيرية مانحة تعمل جميعها في دعم وتمويل الجمعيات الأخرى المتخصصة في قضية أو مشكلة ما وتتخذ صور الدعم والمنح أشكالا متعددة منها ما هو مالي ومنها ما هو تعليمي أو تدريبي ومنها ما هو دعم لبحوث أو دراسات، حيث مولت هذه المؤسسات الكثير من البرامج والمشاريع التي وافقت شروط المنح والدعم كما أن بعضها ساهمت في إعادة هيكلة الكثير من الجمعيات وطورت لها قوالب تطويرية لكل المجالات وأخرى قدمت دورات مجانية لقيادات وموظفات الكثير من الجمعيات.
ما يهمني هنا هو تطوير وتنمية الكوادر البشرية للجمعيات التي تعتبر العنصر الحاسم في نجاح أو فشل أو تعثر الجمعيات عن النهوض بدورها بالكفاءة المثلى، حيث تعاني معظم الجمعيات كما يبدو لي ضعفا في كوادرها التي تعمل بدوام كامل أو دوام جزئي أو تطوعي بمكافأة وذلك لضعف الموارد المالية وبالتالي ضعف معدلات الرواتب، حيث لا يقبل على هذه الوظائف عادة إلا من يرفضه القطاع الخاص أو القطاع الحكومي، وعادة ما يعمل فيها وعينه على القطاعين الخاص والحكومي متى ما تسلح بالمهارات والمعارف التي تمكنه من العمل بهما، بمعنى أن تطوير الكوادر البشرية العاملة في الجمعيات الخيرية من قبل الجمعيات المانحة أو بسبب ممارستها العمل لفترة طويلة يخرجها من تلك الجمعيات لأن الجمعيات لا تستطيع أن تواكب تطور قدرات ومهارات ومعارف كوادرها بمعدلات الرواتب والأجور والمكافآت، وبالتالي تبقى هذه الجمعيات تعاني ضعف كوادرها البشرية ومن ارتفاع معدلات التدوير بموظفيها وهو دليل سوء إدارة كما هو معروف.
ولأوضح الصورة فإن الشركات تستطيع أن تدفع أكثر من 50 ألف ريال لمدير عموم وأكثر من ذلك بكثير لمدير تنفيذي في حين أن الجمعيات لا تستطيع ذلك أبداً وكذلك بالنسبة للمحاسبين ومديري تنمية الموارد المالية وغيرهم، فما هو الحل لردم الفجوة بين مستوى الكفاءات المطلوبة ومستوى الكفاءات المتاحة للجمعيات الخيرية؟
الحل كما يبدو لي أن تقوم المؤسسات والأفراد المانحين بتبني برنامج لتحمل تكاليف رواتب ومكافآت العاملين في الجمعيات الخيرية ولو على مستوى الإدارة العليا والوسطى لتوفير كفاءات بشرية قادرة على تطوير هذه الجمعيات وتشغيلها وفق أعلى المعايير الإدارية والفنية ومتابعة وتقييم أدائهم حتى تصبح الجمعيات بمستوى مالي يمكنها من الاستمرارية بذلك وإلا فستبقى الجمعيات تعاني ندرة الكوادر البشرية المؤهلة عالية الماهرة وما يترتب على تلك الندرة من تداعيات على فاعليتها وكفاءتها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي