ليفنهوك

ليفنهوك

[email protected]

من أبدع الكتابات النثرية في الأدب الفرنسي، ما ينقل عن الفيلسوف (باسكال) في فكرة اللا نهايتين:
يقول باسكال: "عندما أتأمل الكون حولي ينتابني الخشوع، بين العدم الذي خرجت منه، واللا نهاية التي أنا باتجاه الذهاب إليها.
وعندما أتأمل نفسي بين العوالم، أراني محاطا باللا نهاية الكونية فوق رأسي، ولكني عندما أنظر إلى موضع أقدامي أرى أيضاً لا نهاية من نوع جديد؛ فأنا محاط باللا نهاية مرتين.
أنا كل شيء عندما أقارن بالعدم، ولكنني لست بشيء عندما أوضع بجنب اللا نهاية.
وعلى الرغم من التعقيد في الكلام، ولكن تأمله في غاية الجمال.
والذي دفعني إلى الاستشهاد بقوله، هو العالم الأصغر، الذي انكب عليه رجل متواضع، من هولندا طوال حياته، هو (أنطوني فان ليفنهوك1632 ـ 1723م) فأثبت أن هناك عالما كاملا، تحت أقدامنا، مغيبا عن أنظارنا، هو العالم السفلي، من عالم الجن المخفي الخفي المغيب، ولكنه أحياناً يفتك بنا بأشد من الجن والغيلان هو عالم الميكروبات.
وعندما كان الطاعون يهاجم المدن؛ فيمحو محاسن الحضارة، ويزلزل بنيانها، ويصنع التاريخ على طريقته، لم يكن يعرف أحد من هو المتسبب؟ ولم يتفطن أحد، إلى ثلاثة كائنات تتراكب فوق بعضها، فتفعل بمدفعية، من نوع بيولوجي، مثل القذيفة على رأس مدفع؟!
وتبين أن الطاعون ينتقل بين فئران السفن، التي تحمل البراغيث في جلدها، والبرغوث يحمل بدوره ميكروب الطاعون.
واحد فوق الثاني فوق الثالث: ميكروب في جلد برغوث على ظهر فأر؟!
الفأر يحمل والبرغوث ينقل والجرثوم يتغلغل إلى دم الإنسان؛ فيقضي عليه في أيام معدودات.
وكان الناس ينسبون الأمراض يومها، إلى فعل الشياطين، أو تعكر مزاج المريخ أو ذنوب الناس!
فأما أنه جن فهو من جهة فعلاً من عمل الشياطين والجن، الذي منه (جن) اختبأ عن أعيننا من نوع خاص.
كما أنه فعلاَ من ذنوب الناس، ويذكر القرآن عقوبة أهل سبأ، بتفجر السد، وتمزقهم شر ممزق فهو يقول إنهم وقعوا في الذنوب، وهل نجازي إلا الكفور؟
والذنوب أنواع، ولعلنا لا نتفطن إلى أن الكسل – بجانب الذنوب المعروفة - من الذنوب، وأن الحديث استعاذ منه.
عاش (ليفنهوك) إلى ما فوق التسعين، وبقي نشيطاً لآخر يوم من حياته، وكان موظفاً حكومياً بسيطاً، ولكنه كان عاشقاً للمعرفة واكتشاف المجهول، وقام بنفسه، بتطوير جهاز (الميكروسكوب)، وبلغ فيه إلى قدرة تكبير 270 مرة، واستطاع أن يدخل عالم اللا نهاية السفلي؛ فاجتمع بقبائل وفصائل عجيبة، وعرف أن كل الأنسجة والأعضاء، مكونة من حجيرات صغيرة، لا نراها، كما أن أفواهنا وجلدنا، يعج بقبائل جرثومية شتى، وكان بارعاً في التصوير والوصف؛ فقام بصبر وجلد، يصور ويكتب هذا العالم الأصغر، وعمد بدون خجل في يوم، ففحص السائل المنوي عنده، ورأى للمرة الأولى في تاريخ الطب الحيوانات المنوية، وفي قطرة ماء واحدة، عثر على عالم قائم بذاته، من كائنات دقيقة متحركة، ووصف الكريات الحمر، وقام بإلغاء فكرة التوالد الذاتي؛ فالجراثيم تأتي من الجراثيم، وليس من الماء العفن الذي يولدها، وهذا ينطبق على كل الكائنات، ونحن اليوم نصدق هذا بسهولة، ولكن يومها كان يخالف عقيدة الناس، يحاكم عليها الناس وتطير رؤوسهم.
قام الرجل بعد هذا بالاتصال بأكاديمية العلوم الفرنسية، والجمعية الملكية البريطانية، ولم يكن يتقن غير الهولندية، كما لم يكن رجلاً أكاديمياً بحال، وانتخب عضواً فيهما، بسبب مثابرته.
وعلى الرغم من تواضع مركزه الاجتماعي؛ فقد أثارت اكتشافاته العديد من العلماء ورجال السياسة أن يزوروه. كان منهم قيصر روسيا بطرس الأكبر، وملكة بريطانيا.
ولم تعرف أهمية اكتشافاته إلى 200 عام، عندما جاء باستور، فاهتدى إلى التعقيم.
وهكذا نما العلم من خلال عمل تراكمي..
وفوق كل ذي علم عليم...

الأكثر قراءة