الرفع من مستوى المدارس الحكومية قرار تخطيطي لحل أكبر الأزمات
يأتي القرار الأخير لضخ تسعة مليارات ريال للرفع من مستوى المدارس والمعلمين وكأنه استجابة لمتطلبات وآمال الكثيرين. وبالرغم من أنه قرار مهم لمستقبل التعليم وضمان للحصول على مجتمع متعلم وناضج حضارياَ. وإنه قرار له إيجابياته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وله قيمة مضافة مستقبلية لا تقدر على جميع شرائح المجتمع وقطاعاته الاقتصادية ليضمن لنا منزلة عالية في مصاف الدول المتقدمة. إلا إنه يحقق لي أمنية كنت أطالب بها منذ سنوات وهي أن الرفع من مستوى المدارس له بعد تخطيطي عظيم وكبير في حل معظم مشاكلنا المرورية وتخفيف حجم العمالة الوافدة من السائقين والخدم الذين يصاحبون أبناءنا. فكما أشرت في مقالات سابقة فإن مشاكل الازدحامات المرورية في المدينة الذي يعاني منه المرور ووزارة النقل والأمانة، كما تعاني من حوادثه وزارة الصحة بسبب ما تتكلفه للعلاج والتلوث البيئي (الهيئة العليا للتلوث البيئي) وتخصص كل منها ميزانيات ضخمة لذلك. هي مشاكل يحلها تقاعس وزارة التربية والتعليم عن الرفع من مستوى المعلمين والمدارس (الحكومية) العامة داخل الأحياء كماً وكيفاً. وبحيث يمكنها منافسة المدارس الخاصة أو على الأقل أن يكون هناك مستوى مقياسي موحد للجميع.
الرفع من مستوى المدارس الحكومية سيجعل أبناء كل حي سكني يسجلون في المدارس القريبة منهم في الحي نفسه وكذلك المعلمات سيدرسون والإداريات والفراشات والحراس سيعملون في مدارس قريبة منهم. بدلاً من مزاحمة الآخرين صباحاً وظهراً لتوصيل أبنائهم إلى مدارس خاصة في أحياء بعيدة لخف جزء كبير من الازدحامات والحوادث المرورية التي أيضا تكبد وزارة الصحة تجهيزات مكلفة لمعالجة المصابين ومشاكل التلوث البيئي. ناهيك عن أهمية الوقت والساعات التي سنوفرها بتخفيف الازدحامات على بقية المواطنين ورجال الأعمال والمهندسين والأطباء للوصول إلى أعمالهم لخدمة الوطن. ووجود المدارس قريبة من السكن سيلغي حجما كبيرا من السائقين ويخفف الاستقدام ومشاكل تلك العمالة.
فالكثير من المواطنين لن يحتاجوا إلى استقدام سائقين أو سيارات نقل معلمات وبمحرم أو حتى الحاجة إلى شراء سيارة إضافية وتكلفة صيانتها ووقودها. إن الوفر على الاقتصاد الوطني والإيجابيات كثيرة وتتعدى ذلك فهي ستساعد على الحد من استقدام العمالة الأجنبية ومشاكلها وأمراضها الاجتماعية عوضاَ عن تسرب أموالنا للخارج. والتخفيف في وارداتنا من السيارات وقطع الغيار. تخيلوا معي الآثار الإيجابية التي سنجنيها وسنوفرها على موظفي تلك الجهات الذين يمكن الاستغناء عنهم ليوفروا على الدولة جزءا من ميزانيتها. وكمية الوفر الذي نجنيه من الحد من تلك الرحلات والمشاوير التي تساعد على عدم تعرض طرقنا للضغط الكثير وتحفرها أو تلفها وهو ما يكلفنا الكثير لصيانتها.
وقد كنت أتساءل لعلنا نجد مرونة من وزارة المالية لتسخر بعض ميزانيات وزارة المواصلات والأمانة والمرور والصحة وكذلك الإعانات التي تقدمها لمدارس القطاع الخاص وغيرها للرفع من مستوى المعلمين والمدارس الحكومية وسط الأحياء وذلك بالتدريب والابتعاث والمباني الجذابة. لدرجة تمكن سكان الحي من تسجيل أبنائهم في تلك المدارس لتخفيف الازدحامات المرورية في المدن. وقد جاء القرار ليبدد ذلك التساؤل.
الازدحامات المرورية هي أحد أهم المواضيع التي ما زالت الشغل الشاغل لمن سبقونا في مواجهة هذه المشاكل. وهي في صلب علم التخطيط الذي لا نفقهه ولا نؤمن بأهميته. وتشير الأبحاث التخطيطية في نظرية التحضر الحديث New Urbanism إلى أن تصميم الأحياء السكنية وكفاءة الخدمات التي توفرها لسكانه لها أثرها البالغ في حل المشاكل المرورية. فالتخطيط هو سلسلة من الأنشطة والخطوات التي تسير وفق برامج زمنية بهدف الحصول على بيئة عمرانية حضرية تتماشى مع متطلبات المجتمع. وهو علم متشعب ومترابط مع جميع الجهات الخدمية للمدن. ويزعم كل أنه يعرفه بينما لا يفهمه إلا القليل. لذلك فإن الكثير من المسؤولين يجهلون مفهوم ومعنى التخطيط بل إنهم يخلطون بين مفهومين مختلفين لكلمة تخطيط. ويخلطون بين أنواع التخطيط المختلفة وعلم الهندسة. فهناك فرق كبير بين العلمين، كما أن هناك اختلافا بين التخطيط الوطني (القومي و المحلي) National Planning والتخطيط العمراني Urban Planning. فالتخطيط يعني بوضع سياسات مستقبلية مبنية على أسس ومتغيرات داخلية وخارجية ومبنية على احتمالات وتوقعات مستقبلية ومحاولة التنبؤ بالتأثيرات المستقبلية وكيفية تجنبها للنهوض بالناتج القومي. والخلط بين هذين النوعين ما زال مستمراً لدى بعض الناس فهم تارة يلومون ويرجعون مشاكل التخطيط الوطني إلى البلديات أو العكس.
ومع أن هذين النوعين من التخطيط مختلفان تماماً إلا أنهما مرتبطان بحيث إن أي تغير في التخطيط الوطني يترك أثرا كبير على التخطيط العمراني.
والمثال الذي طرحته عن الازدحامات وصدور ذلك القرار الحكيم هو فقط إحدى المعاضل التي لا يحلها إلا التخطيط. ولعل القرار يتبعه قرارات أخرى لضخ المليارات للرفع من مستوى بعض الجهات الحكومية وبعض المسؤولين فيها والذين يعتقدون أنهم يفهمون أو يقرون بوجود التخطيط والخطط ولكنهم لا يعبأون بها ويتكاسلون عن تنفيذها. فعلى سبيل المثال إذا أردنا أن نعرف معوقات إيجاد حلول لأية أزمة في المياه أو الكهرباء أو الصحة أو النقل أو المواصفات وجب علينا أن نعرف من الذين يقفون خلف هذه المهزلة. فغالباً نجد أن مشاكل أي جهة حكومية أو خدمية سببها تقاعس جهة أخرى عن واجبها الوطني. والأمثلة على ذلك كثيرة.
وهذا القرار يدعونا إلى فهم دور التخطيط في تحقيق آمالنا لتوفير متطلبات كل نوع أو شريحة من الأعمار وربطها بالتغيرات الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع. فلو أشارت الإحصائيات إلى وجود مواليد لهذا العام فإنه لابد من التخطيط لتوفير المدارس الابتدائية المناسبة بعد سبع سنوات من الآن. ومدارس متوسطة للعدد نفسه بعد 12-13 سنة. وإلى ضرورة التوزيع العادل لها حسب الكثافات السكانية وحجم متطلباتها.
ويبقى أن نعي أنه من المعروف تخطيطياّ أن اختيار الموقع للخدمات وغيرها هو علم مهم وقائم بذاته وله نظرياته ويتم عقد مؤتمرات علمية سنوية ودورية لتطويره. وهو علم يقوم أساسا على عمليات أنظمة ونماذج حاسوبية Simulation Models وباستخدام نظريات الجاذبية وعلاقتها بالمسافات التي يمكن توفيرها على الأغلبية من السكان. وأخيرا تم ربط هذه النظريات بنظام المعلومات الجغرافي GIS والذي يعطي أفضل الطرق لاختيار أنسب المواقع المثالية للخدمات والتي تلبي حاجة الجميع دون أضرار.
إن مثل هذا القرار جاء بعد سلسلة من القرارات التي سبقتها مثل ضخ مبالغ لتوفير البنية التحتية قبل سنوات وليس لدينا شك في أنها ستستمر ولكنها قرارات يجب ألا يتأخر المسؤولون في تنفيذها والحرص على توجيه المسؤولين في قطاعي التخطيط الوطني والبلدي إلى أهمية الربط بين هذين الجهازين فإن ما تشرعه الحكومة أو الدولة يجب أن ينظمه ويتأكد من تنفيذه بقية مسؤوليها وأن يمجده ويحافظ عليها مواطنوها.