تزوير ومخالفات في الحج

قرأت عن إدانة سبعة موظفين في جرائم تزوير وتفريط في المال العام. وصلت مدد السجن في مجملها إلى ست سنوات وتغريم المدانين مبالغ وصلت إلى مليونين و210 آلاف ريال، مع مصادرة مبلغ وصل إلى أكثر من 15 مليون ريال كان موجودا في حسابات مسؤول في وزارة الحج ورئيس مجلس إدارة مؤسسة طوافة.
القصة بدأت عندما عرض مستثمر على هؤلاء مبالغ مقابل توقيع عقود إسكان وهمية لحجاج قدموا على نفقة الدولة بمبالغ تصل إلى 200 في المائة من القيمة الحقيقية لها. لم يذكر الخبر إذا ما كانت المبالغ المصادرة هي القيمة الكاملة لعقود الإسكان الوهمية أم أنها أقل من ذلك. هذه القضية ذكرتني بقوانين صدام حسين عندما قررت الولايات المتحدة ودول الغرب أن يفرضوا حصارا اقتصاديا على العراق بعد انتهاء حرب الخليج الثانية، عندما قرر صدام أن يعدم كل من يرفع سعر المواد الغذائية، وسرت عندها نكت عن عمليات إعدام نتجت عن رفع سعر كيلو الطماطم.
حلولنا ''كعرب'' وقتية، وتتعامل مع المشكلة الحاصلة، أي أننا أقرب إلى الإطفائيين من الإداريين. لم أسمع أن هناك إعادة لدراسة موضوع إسكان ضيوف الدولة في الحج أو في غيره. لتبقى المشكلة قائمة، ويأتي من يعتقد أنه يمكن أن ينفذ بجلده من قضية مثل هذه. يقوم بتنفيذ عملية اختلاس أو رشوة بطريقة مختلفة تضمن أن يضع في حسبانه الأخطاء التي وقع فيها غيره. قد ينجح وقد لا ينجح، لكنه سيحاول لأن الفساد قضية أقرب ما تكون إلى معركة توازنات. فكلما وضعت الجهات التنظيمية قوانين أو أصدرت المحاكم أحكاما بناء على حالة معينة، بدأ المجرمون في تنفيذ أعمالهم متفادين ما وقع فيه غيرهم من أخطاء، وبناء على الخبرة المكتسبة من عمليات فساد سابقة.
ينبغي أن تعمل الجهات التشريعية والتنظيمية والتنفيذية على إيجاد قواعد علمية ومنطقية للتعامل مع مختلف حالات الابتزاز والسرقة والرشا التي يمكن أن تقع، وتضع السيناريوهات التي تكشف الثغرات القانونية والتنظيمية وتتعامل معها بما يحمي المال العام من اللصوص.
إن حدوث سرقة مثل هذه، واختلاس لم يراع قدسية المكان والزمان ومكانة الضيوف، لهو دليل فاضح على أن هذه الحادثة ما هي سوى عينة مما يمكن اكتشافه لو بحثنا ودققنا. استغلال الحجاج وما تقدمه الدولة لهم بهذا الشكل ''المقزز'' يدل على أنه يمكن أن تكون منتشرة في مواقع أخرى أقل قدسية واحتراما. هذا ما ينبغي أن تركز عليه الجهات الرقابية، كجزء من مسؤوليتها للحفاظ على المال العام اليوم.
ليس أقل من أن تنظم الجهات الرقابية كديوان المراقبة العامة، وهيئة التحقيق والادعاء العام، وجهات البحث الإداري بالتعاون مع إدارات المراجعة الداخلية التي شكلت حديثا في كل الوزارات وإدارات المتابعة ورش عمل تتم فيها مناقشة الأساليب العالمية في التعامل مع الخروقات، وطرق كشفها، ووسائل الوقاية منها. والتعامل مع المخالفين بطريقة تضمن منع حدوث مثل هذه المخالفات أو الحد منها قدر الإمكان. يجب أن تحول نتائج ورش العمل هذه إلى قوانين صارمة تضمن إيقاع العقوبات المناسبة على كل المخالفين، مهما كان موقعهم.
توجد المخالفات في كل دول العالم، لكن الجميع يعلم أن هناك من القوانين التي تدعم الشفافية والمحاسبة ما يؤدي إلى الكشف السريع والتعامل الفاعل مع المخالفات. هذه القوانين لا تعطي أحدا الحصانة من المحاسبة القانونية، وكم من وزير ورئيس وزراء وقعوا تحت طائلة المحاسبة القانونية أثناء مغادرتهم مواقعهم الوظيفية وبعدها، ولعل القضية التي رفعت على جاك شيراك على مخالفاته أثناء عمله رئيساً لبلدية باريس مثال على أهمية بقاء حق الدولة في ذمة المواطن حتى إن ترك المنصب العام.
إن الاعتماد على المبلغين عن المخالفات بصفة شخصية أو لأجندة خاصة، هو واحد من أكبر الأخطاء التي تدل على عيوب أساسية في نظام الرقابة والتفتيش، وإهمال لأحكام أنظمة المنافسات التي تلزم بها كل الجهات كجزء من واجبها تجاه حماية النزاهة.
كما أن من المساوئ الأساسية التي يمكن أن توجد مكانا تنمو فيه السلوكيات المسيئة للنظام والقانون، الاعتماد الدائم على استخدام الاستثناءات التي تمنحها الأنظمة لحالات الطوارئ. تحدث مثل هذه التجاوزات في حالات تكون فيها الخطط غير متوافقة مع الواقع، أو لا تأخذ العبر من أخطاء واحتياجات الماضي. يضاف إلى هذا تغلغل البيروقراطية الحكومية في أوصال الأجهزة الإدارية، الأمر الذي يؤدي إلى تأخر الموافقات على الكثير من الأعمال ذات الطابع الوقتي، وتضطر الجهات إلى التنفيذ من خلال التكليف المباشر، قد يكون أي من هذه الأسباب هو الذي أوجد حالة الابتزاز الواردة في بداية المقال.
إن عدم التخطيط المبكر لاستضافة الحجاج، أو تأخر الموافقة على الاستضافة أسباب يمكن أن توجد الثغرة التي ينفذ منها هؤلاء وأمثالهم لاستغلال الوضع الحرج، واجتراح هذه المخالفات التي لا يمكن أن يبررها لهم أحد أو قانون. على أن من المعلوم أن الاستضافة أصبحت جزءا من المهام التي تنفذها وزارة الحج ولا بد أن توضع في ميزانيتها وتعد خططها بناء على ذلك.
دعت مقترحات حلقة النقاش الثانية لدراسة ''الفساد الإداري والمالي .. الواقع والآثار وسبل الحد منه'' التي تناولها منتدى الرياض الاقتصادي، إلى إنشاء نيابة خاصة ومحكمة متخصصة للنظر في قضايا الفساد والبت فيها بالسرعة المطلوبة، فضلا عن تغليظ العقوبات المرتبطة بقضايا الفساد لتصل لحد الإعدام إذا تعلقت بإزهاق الأرواح. هذا يستدعي أن تعمل كل الجهات الحكومية على المساهمة في الجهود الرامية للمحافظة على المال العام وقطع الطريق على كل الممارسات المسيئة للأمانة والمهنية المطلوبتين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي