مِن أُولى ابْتِدائي .. لِخَرِيجَة
مِن أُولى ابْتِدائي .. لِخَرِيجَة
عِنْدَما أُغْمِض عَيْنَاي وأُجَسّد أَمَامَ نَاظرَيّ واقِعَاً كَأنّه بِالأمْس القَرِيب، لَكن فِي الحَقِيقَة قد مَرّ عَليه ١٦ سَنة .
فِي أوَّل ابْتِدائي : سَنَتِي الأولَى وخُطْوَتِي الأولَى لِسُلُوكِي طَرِيقَ الجَنَّة ، وَلأنَنِي حَظِيتُ بِوَالديْن دَفَعَانِي لأَمَام ، صَحِبَانِي مُنْذُ البِدَاية ، لَمْ يَتَوَانَوا فِي تَوْجِهِي ودَعْمِي ، فَفِي كُل سَنَةٍ أَكْبَر فِيها ، أُذُنَاي لَمْ تَغْفَل سَمَاع دَعَوَاتِهِمَا وعَقْلِي يُمْلِي عَليَّ رَسَائِلهُم الايجَابِيّة .
لِذَلك أَوّل سَنَة تَخرّجٍ لِي، كَانت أكْبَر حَافِز ، جَعَلتْنِي مَسْؤُولَة عَن المُسْتَقْبل الذّي سَأصْنَعُه لأُضْفِي شَيْئاً جَمِيلاً لِنَفْسِي وَوالِدَاي .
وَمَا أنْ انْتَقَلْتُ للمَرْحَلة المُتَوسطَة وفِي تَفْصِيلاتِها الجَمِيلة والبَسِيطة ، كَانَ فِي ذِهْني أَنَها جِسْراً للعُبُورِ لآخرِ مَرَاحِل الدّرَاسة ، فَمَا كُنْتُ إلا لأصْطَبِغها بِنَشاطٍ واجْتِهاد يُعِينُنِي لأُوازِي مَسَارِي أو أخْطُو بِأفْضل مِنه، وَأكْثرُ مَا حَبَانِي بِه الله حِينَها، خَتْمِي لِكِتَابِه ، لَمْ تَكُن فَرحَة عَابِرة ، فَهِي تِلْك أُمْنِيتي التِي سَأَوْرثها أَنا فِي الجَنّة بِإذن الله لأُلْبِس وَالدَاي تَاجَ الكَرَامة ، فَنَنْعَم بِفَخرٍ لَيْسَ يَفْنَى .
وَكَعَادة الأيَام فَمَا أنْ انْقَضَت إلا وأنَا طَالِبة فِي المرْحَلة الثَانوّية ، هَذِه الفَتْرة لمْ تَكُن قَالِبا جَاهِزاً آخَذْته كَمَا هُو مِن السنَوات السَابِقة ، بَل كَانَ لابُد أنْ تَطْرَأ عَليه تَغَيُراتٍ كَثِيرَة تُنَاسِب تِلك المرْحَلَة ، مَلَكتْنِي الرّغْبة فِي جَعْل تِلك الأَيْام أَهَمُ مَا يمْكِن أنْ أكْسَب مِنه نَصِيباً وَافِراً مِن العِلْم ، تَشَاطَرْتُ ذَلِك كُله مَع رَفِيقَاتٍ أُدِينُ لهُن كَثِيراً ، الأرْوَاح التِي خَلَجَاتُها مَكْسُوّةً بِالقُرآن تَحَامَلْن مَعَاً طُهْراً جَمَعنَا فِي دَوْحةٍ غَنَاء ، بَهِي بِنصْحٍ ومَحبَةٍ مِن مُعَلِماتٍ أَخْجَل أنْ أُحْصِي فَضْلهُن ، فَفَي يَومِ تخرُجِنَا كَانُوا عَلى ثِقَةٍ بِنا ودَّعُونَا للجَامِعة وكَأنّهم يَقُولُون : طَالِباتَنا ، أَشْعِرونا بِقَدر اسْتِفَادتِكم مِنّا بِأنْ تُكُونُوا الأفْضَل ، ومَا دَامَ القُرْآن سِراجُكم فبإذن الله تهْتدوا للخَيْر وتُوَفّقُوا .
فِي الجَامِعَة وقَفْتُ فِي أَوّل أَيَامِي أَسْتَثْبِت الطَرِيق حَتى أَسِير مُجدَدَاً على الدّرْبِ الذي أَرْشَدنِي إِليْه وَالِدَاي ، وَمِن بَعْده كُل أُولَئِك الذّين تَمثّلُوا الأَيَادِي البَيْضَاء التي صَحِبَتني مَجَازاً، وانْتَصَبَت كَلِمَاتُهم كَقَبسِ ضَوْءٍ يَتَشَكّلُ أَمَامِي كُلّما ضَعُفَت هِمَتي أو تَقَاعَسَت ، جَعلْتُ مِن كُل أُولَئِك وكَلِمَاتهم رُؤْيا وَاضِحَة مُمتدّة أمَامي ومُمَهِدةً الطَرِيق الذي سِرْت عَيْله في أَيَامِي وشُهُوري فِي دِرَاسَتِي الجَامِعِية ،عَنِيتُ تَمامَاً بِمفْرَدَاتِهم ، لِهَذَا كَانَت حَافِلَة سَنَواتِي الأَرْبَع . وبِالنِسبة لتجرُبتي في النَّشَاطِ الجَامِعِي وهَبَتْنِي الكَثِير مِن الإبْدَاع ، أَتَاحَت لِي فُرصةً لأَتَعرّف على مُعَلِمَاتٍ زُرّاع اهْتَمُوا بِغرسِي، وتَركْنَ فِيّ بَصْمَةً مُميزَة، فَبفَضْلٍ مِن الله ثمّ بِدَعْمِهِنّ وَضَعْتُ أنَا بِالتَالِي بَصْمتِي ، وهَذِه أُمْنية والدِي اطْمَأْنَنْتُ حِينَ تَحقَقَت .
خِلاَلَ هَذِه الفَتْرَة بَرْمجتُ نَفْسِي حِينَئذٍ عَلى التَفْكِير بِالأشْيَاء الجَمِيلَة التِي سَأُتوّج بِها وَالِدَاي حِين أَتَخَرج ، وبِالعِلْم الذّي يُثْرِينِي ، حَتَى أَنَام مِلْئ جِفْني إنْ كَان ذَلك كُله يَعْني مَنْحِي مُكَافَأَةً لِجُهْدِ مُعَلِمَاتي ، وَتَقْديرَاً لِرَفِيقَاتي اللّاتِي تَشَاركْتُ مَعَهن ضُغُوطَاً سَاوَرَتْنا فَتَخَطيْناهَا .
وَحَانَت اللحْظَّة ؛ تِلْك التِي أَعِيشُها اليَوْم، سَعِيدَة وَمحْظُوظَة ، لأَنِي لَمْ أَكُن وَحْدِي ، مَحْفُوفَة بِكُل فَرِح رَسَمتْه ابْتِسَامَة الجَمِيع ، كَافِيه لِتُبْهِجَنِي، لِتَتْرك فِي ذِهْنِي انْطِباعاً جَمِيلاً أَسْتَطِيع أنْ أَجْعَلَ مِنْه وَقُوداً للمُثَابَرة ، وأنْ أَخْطُو للمُسْتَقْبَل شاحذةً الهِمّة .
وأخِيراً ..
كُلّ هَذِه لم تَكُن سِينَاريُوهَات ، لَكِنهَا أَحْداث أَغْلَبُنا مَرّ بِها وَهُناك مَنْ يَتَمَتُع بِها لِلآن ، وَلَكِن اعَادَةُ سَرْد جُزْءٍ حَافِلٍ مِن حَيَاتِي وتَصَوُرِي كَيْفَ كُنْت ومَاذَا أَنَا الآن (مِنْ أُولَى ابْتِدَائي .. لِخَريجَة) ؛ يُلْهِمُنِي الكَثِيرَ مِنْ الحَمَاسة ، وَيُجدِدُ فِيّ كُل مَرّة تَذكُر نِعْمَة إِلّهي، وصبر ومُجاهدَة أُسْرتي، ودَعْم ودُعَاء أَقَارِبي وأَحِبَائِي.
فَأشْكُر وَأدْعِي بِقلبٍ خَالِصٍ لَمْ أَسْتَثْنِي مِنْهُ أَحَداً ؛ وِإنْ كُنْتُ لَنْ أَفِي حَقّ الكَثِيرِين ، وأهْدي لَكُنّ تخْرُجي وِشَاحاً .
وَهَذَا كُله أَولاً وآخِراً فَضْل مِن رَبي سُبْحَانه فَلَه كُل الحَمْد كُل مِنّه لا أُحْصِي ثَناءً عَليه ..
"رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ" الأحقاف: 15.
خريجة 1433 - 1434 هـ