العطف والرحمة المفقودَتان
نحن مجتمع ندَّعي ما لا نملك. ندين بدين الإسلام، دين الرحمة والعطف والتكافل، لكننا لا نمارس في حياتنا هذه الخصال الحميدة والمناقب العظيمة. ما نقوله شيء وما نفعله شيء آخر. وهذا المقال سيركز على موضوع واحد، من بين مواضيع كثيرة لا مجال للخوض فيها اليوم. فهناك في مجتمعنا فئة غير محظوظة قدر الله عليها أن تعيش بيننا كأسوأ وأتعس ما يعيشه إنسان على وجه الأرض. يتعذب منهم الفرد ظاهريًا وباطنيًا معظم سِني حياته، وعلى وجه الخصوص حياة الطفولة، دون أن يجدوا منْ يُواسيهم ويمسح دموع الحزن والحرمان. وأفراد المجتمع، كبيرهم وصغيرهم، غنيهم وفقيرهم، لاهون في أمور دنياهم. ويا ليتهم يكفون أذاهم ولا يُلقون بالاً لهذه الفئة الضعيفة ولا يحسون بوجودهم، لكان ذلك أولى وأخف ضررًا من الازدراء والنظرة الدونية والشماتة التي تحيل حياة ''مجهولي الأب والأم'' إلى جحيم، على الرغم من أن الذنب ليس ذنبهم، ولا هم الذين اختاروا لأنفسهم أن يكونوا في هذا الوضع الاجتماعي المنبوذ. إنه قَدَرُ الله وما شاء فعل. ونستثني عددًا قليلاً من المواطنين؛ حتى لا نُتَّهم بالتعميم. وهم الذين يقبلون بحضانة ''اليتيم'' ويهيئون له حياة كريمة ويشركونه في الرضاعة مع أولادهم، فجزاهم الله خيرًا وجعل ذلك في موازين حسناتهم، ونتمنى أن يأتي اليوم الذي يكون في مقدوره حمل اسمهم.
وليس خافيًا على ذي بصيرة ما يعانونه من الحالات النفسية المزعجة التي تلازمهم منذ طفولتهم وفي غدوهم ورواحهم. وأكثر ما أعطيناهم أننا منحناهم صفة الأيتام. فهم يعيشون طور شبابهم معزولين في دار الأيتام، تحت عناية ورحمة أيدٍ مختلفة، معظمهم لم يختر هذه المهنة عطفًا على هؤلاء أو حبًا في تخفيف آلامهم وتأنيس وحشتهم، بل بحثًا عن مصدر للعيش الكريم. لذلك، فغالبًا ما تتخالف عليهم الأيدي وهم لا يزالون في سنواتهم الأولى، فتصيب الواحد منهم أنواع من الصدمات النفسية بسبب تغير الحاضنة التي هي بمنزلة الأم. وتتوالى مثل هذه الصدمات مع مراحل العمر، وهو واقع لا مناص من قبوله. ثم تأتي مرحلة الدراسة ابتداء من أولى ابتدائي، وهم يحملون علامة فارقة اسمها دار الأيتام. يشاهدون زملاءهم في المدرسة وكل واحد منهم يأتي من بيته برفقة أمه أو أبيه، باسمًا منشرح الصدر، ثم يعودون إلى بيوتهم بين أحضان ذويهم. كل ذلك يحدث ويتكرر أمام سمع وبصر هؤلاء المساكين المحرومين من عطف الأب والأم. ولا تخلو حياتهم في المدرسة من تنغيص مقصود وغير مقصود ونظرة شذر، تبعًا لخلفية أبنائنا وتصرف الإدارة والمدرسين. فمنهم منْ يكون مؤدبًا يحترم الآخر مهما كان أصله وفصله ولونه وصفته، وبعضهم ازدرائيون يستمتعون بإيذاء خلق الله كلما سنحت لهم الفرص.
والوضع الاجتماعي لهذه الفئة من المواطنين يختلف كثيرًا عن أمثالهم في دول كثيرة. ففي أغلبية المجتمعات تجد الظروف مهيأة لهم للاندماج مع الحياة بحيث تنعدم الفوارق بينهم وبين أفراد المجتمع. أما في بلادنا، حيث القبلية والعنصرية والتمسك بتلابيب الحسب والنسب ضاربة أطنابها في كل بقعة من هذه الأرض الطيبة، فالويل لمنْ ليس له أصل معروف ولا قبيلة تحميه من نظرات التحقير والشماتة. مع أننا نعلم علم اليقين أنهم منا وفينا ومن دمنا ولحمنا، وربما أن الذين أنجبوهم يستطيعون التعرف عليهم من أشباههم وتواريخ ميلادهم وأماكن وجودهم، والله هو الهادي إلى سواء السبيل. وهناك طُرق علمية حديثة تساعد على معرفة ذويهم، وهو ما يسمى بالـ (DNA). لكن هذه الطريقة العملية لو ُطبِّقت لأحدثت ردود فعل سلبية ربما تفوق معاناة هؤلاء الضحايا الذين نحاول أن نساعدهم والتخفيف من مصابهم. والأفضل أن يكون لدينا وعي اجتماعي يسمح بقبولهم واندماجهم كمواطنين عاديين حتى نزيح عن عاتقهم الشعور بالذنب الذي لم يرتكبوه والإقصاء الذي ليس له ما يُبرره. هم لم يختاروا هذا الوضع الاجتماعي الذي وجدوا أنفسهم فيه. ويؤلمهم أشد الألم أن ولادتهم كانت نتيجة لخطيئة ارتكبها في حقهم غيرهم. وإذا كانت هناك ملامة على أحد فهو المجتمع الذي أوجد بيئة تحدث فيها مثل هذه الممارسات التي تنتهي بقدوم إنسان محروم من الأبوَّة والأمومة. وبدلاً من تكفير الذنب، يصب المجتمع جام غضبه على الأبرياء ويترك المسيئين. فبمجرد خروج المولود من بطن أمه تبدأ أول مراحل الكره والإقصاء والتجرد من الشعور الإنساني، وذلك بقذفه في أقرب موضع زبالة؛ أملاً في أن أحد المارة يسمع صراخه واستنجاده، وهذا آخر علمهم به، ثم تبدأ حياته المديدة بمراحل متعددة من الظلم والحرمان والنظرة الدونية وتحطيم الشخصية، والعالم من حوله يعيشون حياتهم العادية ولا كأن شيئًا ما قد حصل! يا سبحان الله، ما أقسى قلوب البشر!
وإلى متى يا تُرى سيظل هذا الوضع المحزن؟ وإذا كنتم لا تستطيعون حفظ أبنائكم وبناتكم من الوقوع في المحذور، فعلى أقل تقدير شوفوا حل لهؤلاء الضحايا وارفعوا عنهم هذا الظلم الاجتماعي البغيض. وإذا كنتم لا تحسون بوضعهم والرحمة منزوعة من قلوبكم، فتخيلوا لو أن أحدكم - لا قدر الله - وجد نفسه في مكان أحدهم! ونحن ندرك صعوبة تغيير عادات متأصلة في أفراد المجتمع. لكن لا ننسى أن هناك فئة من أبنائنا، نعم نقولها بالمليان، هم أبناؤنا، يتألمون ليل نهار. ولا يصح أن نغمض أعيننا عنهم وفي قلوبنا ذرة من إيمان وشيء من الرحمة. نتخيل لو أن أحدكم مرّ على قطة صغيرة حديثة الولادة وقد فُقِدت أمها، نتحدى أي إنسان أن يتركها تموت في العراء من البرد والجوع، بل سيرق لها قلبه ويحملها إلى بيته أو إلى أي مركز عناية.. أين هذا من الرحمة والشفقة على إنسان له شعور وإحساس بالظلم؟
نحن نعلم أن هناك كثيرين - مع الأسف - الذين ربما يستهجنون مثل هذا الطرح، لكن هذا شأنهم وأخلاقهم. ونخشى أن يأتي اليوم الذي تُستخدم فيه الوسائل العلمية لكشف هوية الأم والأب، من أجل حماية مستقبل إنسان بريء.