استيراد البطالة واستنباتها
تسيطر العمالة الوافدة على نحو 90 في المائة من النشاط التجاري في المملكة - حسبما جاء في تحقيق نشرته هذه الجريدة "الاقتصادية" بتاريخ 26/12/2012م. إن واقع الحال يؤكد أن قدراً هائلاً من النشاطات التموينية وقطع الغيار ومواد البناء والمواد الاستهلاكية الأخرى وسواها من أنشطة ومهن - وكلها مناجم أموال ضخمة - هي في معظمها في أيادي العمالة الوافدة بالتملص من الكفالة أو بالتستر، تتوازعها كل جنسية على حدة في نطاق من الاحتكار الخبيث يدار بأسلوب المافيا الناعمة!
وإذا كان حجم العمالة في بلادنا يتجاوز عشرة ملايين راسخين منذ عقود، فيما الحديث عن البطالة الوطنية في المقابل موال صاخب الصوت والصدى، جربنا فيه أمصالنا وعقاقيرنا من جهابذة الطب الرسمي إلى الشعبي والعطارين، وما زلنا نبدي فيها ونعيد دون جدوى .. فهذا لأننا نهتم بالعرض ونترك المرض .. فحين تكون هذه الملايين هي المسيطرة على النشاط التجاري والخدمي، فلن يعني ذلك سوى أننا نصر بها ومن خلالها على استيراد البطالة ومعها الفساد بكل أنواعه في الذمم والتفسخ الخلقي وجنايات أخرى، فضلاً عن ترسيخ الاسترخاء والكسل والتواكل في المناخ الاجتماعي، وفوقها امتصاص رحيق اقتصادنا وصبه في تحويلات الأموال الهائلة للخارج .. بمعدل يعتبر الأعلى في العالم.
وبفتح النظر على هذه السلوكيات المافيوية والانتهازية للعمالة وحدود مسؤوليتها الذاتية فيما تقترفه، تظل المسؤولية الأساس عما يحدث من تخريب ونهب لاقتصادنا مسؤوليتنا نحن، فهي عمالة جاءت بقرار ويمكن كذلك أن ترحل بقرار، وسيعني ذلك تلقائيا ملايين الأعمال يمكن أن يقوم بها مواطنون، فالبطالة التي نسعى للقضاء عليها هي من صنع أنفسنا .. مستوردة ليس إلا.
لكن، حتى لو تم (ما بين طرفة عين وانتباهتها) الاستغناء عن هذه العمالة وإحالة ملايين فرص العمل للمواطنين، فستظل البطالة مارداً يصرخ في وجوهنا، لأن معظم تلك الأعمال التي تقوم بها هذه العمالة الحالية في شقها الفني هي مما لا يناسب خريجي وخريجات التعليم العالي والتقني عندنا، وهم كثرة تتكاثر كل عام لا تجد نفسها في تلك المواقع لا تأهيلاً ولا راتباً، بل ستتفاقم عدداً مع الزمن وترتقي نوعية ومستوى، ما يؤكد أن الخلاص من البطالة المستوردة لن يكون سوى حل مؤقت لا يقف سداً منيعاً أمام بطالة ستضخها مخرجات تعليم تخصصاته الحالية والمقبلة، لا تتواكب مع واقع التنمية بمنشآته المتواضعة المستوى فنياً ومادياً.
لا سبيل إلى الحل الناجع المستديم للبطالة إلا بإعادة هيكلة اقتصادنا الوطني بالتركيز على التصنيع والتقنية لتنويع قاعدتنا الاقتصادية بقيادة الدولة نفسها لمرحلة التأسيس، وعقد تحالفات وشراكات دولية متقدمة معها، يكون التدريب العالي موازياً منذ إقرار أي مشروع صناعي. وهو مسار شاق معقد إنما ليس سواه لتنمية مستدامة، وفاتحاً لسوق عمل أرحب للأعداد المتزايدة من خريجي وخريجات التعليم العالي .. وما لم يحدث هذا .. فالبطالة المستوردة بعمالة من الخارج سوف تتفاقم، إلى جانبها بطالة أشد وطأة نستنبتها من داخل جامعاتنا وكلياتنا التقنية بما فيها معاهد وكليات المؤسسة العامة للتعليم التقني والمهني .. وإزاء حال هكذا تتعاظم فداحة البطالة وخطرها بحاصل جمع البطالة المستوردة من الخارج مع بطالة الداخل .. ولعلي في هذا لا أقول جديداً .. إلا من باب عسى ولعل!