ما كان لا يكون

الرحلة نحو الماضي بحثاً عن حلول سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية، ليست مخيبة للآمال ومضيعة للوقت ومغادرة للتاريخ إلى اللا تاريخ فحسب، بل وضع للعربة أمام الحصان، وعبارة "ما أشبه الليلة بالبارحة" مقبولة فقط من باب الإغراء البلاغي، لكنها لا تنصرف في الواقع. فلا الزمان يبقى هو الزمان ولا الناس هم الناس، ومهما بدا عمل أو قول أو منهج خارقاً في حينه فلن يكون قابلاً للاسترجاع، فالماضي لا يعود .. الماضي لا مستقبل له .. والمستقبل هو الحقيقة المتحرّكة الطاردة لما عداها.. هذا هو منطق الحياة ومسار التاريخ البشري واكتشف هذا التدفق ديمقريطس قبل نحو 2500 عام فقال: "إنك لا تسبح في مياه النهر مرتين"، رغم أن الزمن كان حينها يجري وئيدا لا يكاد يحس الناس معه بتطور ملحوظ ما جعل أرسطو يقرر أن الإنسان محكوم عليه بمحاكاة الطبيعة وأنه بذاته كفرد يحاكي مجتمعه أو يظل أسيره باعتبار المجتمع هو الطبيعة الغالبة.
وذلك النسق من التفكير ظل مهيمناً على الفكر البشري حتى كسرته الحداثة بالخلق دون محاكاة وبالتالي الاستقلال الفردي عن المجتمع.. فأنهار (الماضي – المثال). ولم تعد دقيقة تمضي من الزمن معياراً للدقيقة اللاحقة ولا فرداً يشبه فرداً، ثم أصبحت الحقيقة، مع العلم التجريبي، حقائق، إما علمية، كما في العلوم الصلبة كالفيزياء، الكيمياء، الميكانيكا، الأحياء.. أو موضوعية كما في العلوم الرخوة (الإنسانية) كالاجتماع، الاقتصاد، النفس، السياسة.. فصار التعدد والتنوع والاختلاف أي الإنسان الفرد هو القاعدة وليس المجموع واقتضى ذلك اعترافاً متبادلاً بالآخر بعقد اجتماعي يمثل قاسماً مشتركاً للفردانيات لا يستبد فيه المجموع على الفرد ولا هذا على ذاك ثم تعمّق هذا التباين مع النسبية لأنيشتاين .. صارت حتى الحقيقة العلمية أو الموضوعية حقيقة نسبية لا تكون فاعلة إلا في علاقتها بحقائق نسبية أخرى في مجالها .. وما عاد شيء ثابتا سوى التغيُّر نفسه الذي هو بالضرورة حركة "تقدم" للأمام في محصلته النهائية، مهما بدا متقهقراً أو راكداً في مكان آخر.
على أن الحداثة لم تكن بلا تطرفات، إنما فشلت كل محاولات فك الارتباط بين المجتمع والفرد لصالح هذا أو ذاك، فتطرف سارتر - مثلاً - في وجوديته قاده إلى (الغثيان) واكتشف في فلسفته (عزلة) راح يجسرها بمقولة (الالتزام)، وقبله انتهى تطرف فوضوية باكونين عن أن: (أفضل الحكومات هي التي لا تحكم) إلى التبخر كضرب من الفنتازيا بينما أسفرت ديكتاتورية الطبقة العاملة "ديكتاتورية البروليتاريا" لماركس إلى سحق كل من الفرد والمجتمع ناهيك عن اندحار النازية والفاشية .. ليبقى جذر الحداثة: في الاعتراف بالآخر وفي نسبية الحقيقة هما الأساس.
غير أن الحداثة في كسرها لاحتكار زمن سابق لزمن لاحق أو هيمنته عليه لم تفعل ذلك قصاصاً من الزمن للانفلات عنه إلى عشوائية وفوضى، بل كان اكتشاف القيمة القصوى للزمن أهم إنجازاتها فألقت القبض عليه ليكون في مصلحتها لا ضدها وضبطت به إيقاع الإنتاج والحراك البشري بصرامة لا تفريط فيها بدقيقة منه فأخضعت المصانع والمعامل والمختبرات ومرافق العمل والعلم والتقنية والخدمات لتوقيت أدركت أنه ركيزة الاقتصاد والأمان والتقدم .. دونه ليس سوى التخلف والخطر.
عالمنا العربي .. منذ عصر النهضة .. ما زال عالقاً إلى اليوم بالماضي لمحاكاته وبالجماعة لإلغاء الفرد مرة باسم العودة إلى دولة الخلافة ومرة باسم الأمة العربية ومرة باسم استنساخ ماضي تجارب شرقية أو غربية وكلها أفضت إلى طامات كبرى ونجحت فقط في جعل المستقبل ماضياً فرَّخ "قاعدة" في كل مكان وربيعاً عربياً بعيون للخلف، ولن يتغيّر الحال ما لم يترسخ في الأذهان أن: ما كان لا يكون .. فالمحاكاة بلهاء وذوبان الفرد في الجماعة سكون.. كأنما.. لا جديد ولا أحد!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي