الاقتصاد والديمقراطية

الاقتصاد والديمقراطية
الاقتصاد والديمقراطية

نيويورك :كان اندلاع أسوأ أزمة تواجهها الرأسمالية منذ أزمة الكساد الأعظم في ثلاثينيات القرن العشرين، سبباً في إيقاظ ذكريات كئيبة على جانبي الأطلسي. والآن يطارد شبح فرانكلين ديلانو روزفلت الولايات المتحدة في عهد باراك أوباما. وتشكل الحجج التاريخية حول ما إذا كانت صفقة فرانكلين روزفلت الجديدة قد نجحت أو لم تنجح، جزءاً مهماً من المناقشات الأمريكية حول السياسة النقدية والمالية الحالية بشكل عام، وسياسة التيسير الكمي التي يتبناها بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بشكل خاص.

وفي أوروبا، حيث أدى فشل الاقتصاد الوطني ذات يوم إلى انهيار الديمقراطية ذاتها، يتساءل الناس الآن ما إذا كان ذلك قد يتكرر. والبعض يرى لحظة فايمار أخرى، وهو ما يذكرنا بفترة ربط الحزام وارتفاع معدلات البطالة في ألمانيا أيام هاينريش برونينج، التي ساعدت على وصول النازيين إلى السلطة.
وللوهلة الأولى، تبدو أسباب رفض هذا السيناريو ساحقة. فإذا كان الاتحاد الأوروبي قد أفاد بأي شكل من الأشكال فهو أنه جعل الحرب بين فرنسا وألمانيا احتمالاً لا يمكن تصوره. وبالتالي فإن السياق الجيوسياسي بالكامل أصبح أقل تهديداً مما كان عليه في ثلاثينيات القرن العشرين.
وعلاوة على ذلك فإن التطرف الإيديولوجي الذي ألهب حماس القارة واستقطبها في ذلك الوقت لم يعد رائجاً اليوم. فالشيوعية التي فقدت مصداقيتها بانهيار الاتحاد السوفييتي والكتلة السوفييتية في أوروبا الشرقية تحتضر الآن عمليا، وأتباعها الرئيسيون ــ في الدول حيث تمكنت الأحزاب الشيوعية من الصمود ــ أصابتهم الشيخوخة وأصبحوا غير قادرين على إعادة إنتاج أنفسهم.
أما عن الفاشية، فإن ورثتها السياسيين في بلدان مثل إيطاليا وفرنسا يتعاملون الآن مع وصمة الماضي. وتحول الذكريات الحية من الحرب الشاملة والإبادة الجماعية دون عودة الأحزاب اليمينية الشمولية إلى الحياة من جديد.
ومن غير المرجح لنفس السبب أيضاً أن نرى عودة الأنظمة العسكرية إلى جنوب أوروبا أو أي مكان آخر؛ فالمعاناة التي تسببت فيها مثل هذه الأنظمة لا تزال حية في الذاكرة الجماعية. وآخر ما تريده المؤسسة العسكرية في البرتغال أو اليونان هو أن تتولى المسؤولية عن الحكم.
ثم هناك الفارق الأكثر جوهرية على الإطلاق ــ الذي يسهل تجاهله بالتالي. ففي ثلاثينيات القرن العشرين، كانت السياسة تجتذب الجماهير لأن الناس كانوا مؤمنين بالمستقبل. فقد سار الملايين من أجل القضايا العظمى آنذاك، وانضم مئات الآلاف إلى الأحزاب السياسية ــ طيلة حياتهم في كثير من الأحيان. ولا تشكل مسيرات ومظاهرات اليوم سوى تَذكِرة خافتة بتلك الأوقات، في حين تخسر الأحزاب في كل مكان أعضاءها.
لكن من الحماقة أن نستنتج أن أزمة ما بين الحربين ليس لديها ما تعلمنا إياه. بل إن الأمر على العكس من ذلك تماما. ففي ثلاثينيات القرن العشرين، كانت الولايات المتحدة وبريطانيا من بين الدول القليلة في العالم حيث ظلت الديمقراطية المتعددة الحزبية باقية. وفي كل مكان آخر تقريبا، حدثت انحرافات حادة نحو اليمين. ففي ألمانيا وإيطاليا، وصلت الأحزاب الفاشية إلى السلطة، في حين دعمت الجيوش أو الممالك الأنظمة الدكتاتورية في أماكن أخرى. وبتحليل هذه الأحداث في وقت لاحق، عكف المؤرخون على بناء أنماط واضحة للتمييز بين الفاشية والأنظمة الاستبدادية. ولم تكن الفوارق بسيطة. لكن الأمر الأكثر أهمية يتمثل في أوجه الشبه بين الأنظمة الفاشية والاستبدادية ــ التي استفادت جميعها من الانهيار الساحق لشرعية السياسة الديمقراطية. وأشار المؤرخون إلى أن الديمقراطية ليست شكلاً ما من أشكال الحالة الطبيعية، وليست مرحلة من التاريخ حيث يمكن اعتبار الاستقرار والدوام من الأمور المسلم بها.

#2#

الواقع أن قوة الديمقراطية لا تكمن في طابعها فحسب، بل في إنجازاتها أيضا. وقد تنحسر شعبيتها بسرعة عندما ترتبط بالفشل الشامل للنظام، سواء كان ذلك في ساحة المعركة ــ كما حدث في فرنسا عام 1940 ــ أو في مجالس إدارات الشركات وأرض المصانع.
ويتعين على هؤلاء الذين يشكون في إمكانية حدوث هذا أن يفكروا في الدولة الأوروبية الأكثر تضرراً بالأزمة الحالية ــ اليونان. فبعد سقوط زعماء الحكم العسكري في عام 1947، نشأ هناك نظام ديمقراطي. ثم بدأ حزبان رئيسيان في التناوب على السلطة وعمل التكامل الأوروبي كأداة لتثبيت استقرار السياسة المحلية. لكن هذا لا يحدث الآن. بل إن الأمر على العكس من ذلك، فقد تعامل دائنو اليونان ــ وساستها ــ مع الأزمة على نحو ألقى بظلال من الشك على كل الإنجاز الدستوري الذي تحقق على مدى العقود الأربعة الماضية. والواقع أن الاضطرابات السياسية التي أحدثتها الأزمة أدت إلى انهيار النظام الثنائي الحزبية القديم. بين عام 2010 و2012، كان حزب باسوك من يسار الوسط في سدة الحكم، وبذل كل ما بوسعه من جهود للحفاظ على عضوية اليونان في اليورو ومنع العجز رسميا عن سداد الديون. وكانت النتيجة انخفاض الدعم الانتخابي لهم من 44 في المائة إلى 12 في المائة. والآن تحول باسوك إلى قشرة ذابلة لحزب مهان. وأصبح يسار الوسط بالكامل في حالة من التقلب، وستأتي الأحزاب الجديدة وترحل في أغلب الظن.
كما خسرت الديمقراطية الجديدة على يمين الوسط الأرض أيضا، ولو لم تكن خسارتها بالشدة نفسها. لكن هناك قوة جديدة ظهرت على الجانب: أو الفجر الذهبي، الحزب النازي الجديد الصريح الذي ينشر العنف في الشوارع والحياة العامة، الذي بدأت شعبيته تتزايد نتيجة لهذا.
لم يكن المحفز لصعود حزب الفجر الذهبي المفاجئ ذلك القسم الكبير من سكان اليونان من المهاجرين غير الشرعيين ــ فوجودهم سابق للتحول باتجاه اليمين بسنوات عديدة ــ بل كان سبب صعوده راجعاً إلى الارتفاع الهائل لمعدلات الفقر والبطالة على مدى الأعوام الثلاثة الماضية، فضلاً عن تنامي الغضب الشعبي من المنتمين إلى الطبقة السياسية ككل في المقام الأول من الأهمية. وباختصار، أسفرت الأزمة عن نزع الشرعية عن الساسة الديمقراطيين في اليونان وإنجازاتهم المفترضة. هذه ليست فايمار. لكن الأمر برمته يصور لنا مدى سرعة تقوض الديمقراطية في وقت مبكر من القرن الحادي والعشرين بسبب التطبيق الدائم لتدابير التقشف الاقتصادي، وبسبب فشل الزعامات السياسية في الداخل والخارج. أما تقرير ما قد يحل محل الديمقراطية فهو أمر آخر. لكن لا ينبغي لنا أن نشعر بالرضا لمجرد أننا لا نستطيع أن نتخيل البدائل.

أستاذ التاريخ في جامعة كولومبيا. وأحدث مؤلفاته كتاب بعنوان ''حُكم العالم.. تاريخ الفكرة''.

خاص بـ
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2012.

الأكثر قراءة