حكمة ابن آوى
تزعم الرواية أن غراباً كان يسكن رأس نخلة، يطل بها من علو على كل المنطقة، فيتنشق الهواء العليل، ويتظلل بسعف كبير، يطعم من تمرها هضيما، حتى ابتلي بجار سوء!
ففي أحد الأيام رابه فحيح أفعى خبيثة، بلون مرجاني، قد ابتنت له جحراً في أسفل الشجرة؛ فتشاءم الغراب من هذه الجيرة.
وحدث ما كان يتوقع؛ فعندما وضع فراخه، ثم طار يجلب من الصيد ما يطعم به فراخه، ورجع إلى العش؛ لم يجد أثراً لصغاره، فصاح وندب وضرب بريشه السعف، فسمعت له المنطقة نواحاً وحزناً كبيرين، فسمع ابن آوى البكاء، فرق قلبه؛ فجاءه؛ فاقترب منه، وسأله عن مصيبته: فروى له كيد الحنش وخبثه وما فعل بصغاره.
كان الحزن والغضب قد استوليا على قلب الغراب فتمكنا منه فقال لابن آوى: إنني أريد أ ن أهجم عليه بالليل، فأفقأ عينيه، فأجعله أعمى بقية حياته كما هو أعمى القلب، فيأتي يوم القيامة أعمى.
صاح به ابن آوى إياك أن تتصرف في ساعة الغضب! فإن الإنسان لا يحسن التصرف مع نار الغضب، وكسرة الحزن، واشتعال الشهوة، ومرجل الانفعال، ويقول الألمان في أمثالهم إن أطيب طعام الانتقام ما أكل باردا، وجرت الأمثال في بادية الشام أن أعرابيا أخذ بثأره بعد أربعين عاما فقال قومه لقد بكرت! ولكن الثأر ليس بجيد، إلا من ظلم، والعفو أقرب إلى شيم الكرام.
قال الغراب صدقت، فبماذا تشير علي؟
قال اعلم يا صديقي أن المشورة واجبة، لمن طلبها، ولقد قيل من قديم الزمان، إن الملوك يفسد عليها أمورها ستة أشياء: حرمان الصالحين، وفتنة الرعية، وهوى النساء، واللهو، والشراب، والفظاظة، وهي إفراط الشدة، كما لو اجتمع اللسان بالشتم، مع اليد بالضرب.
واعلم يرحمك الله أن أمور الزمان من نقص الثمرات، والكوارث الطبيعية، ليس منها مهرب، والخرق وهو إعمال الشدة في موضع اللين ليس بجيد، كموضع الندى في موضع السيف.
وعلى المرء يا صديقي أن يعمد إلى الحكمة في معالجة أموره، فرب ضعيف وصل بدهائه، ما لم يبلغه القوي بعضلاته، وإني مشير عليك بما هو أفضل، فنسعى في تخليص المنطقة من وباله وشرور أفعاله.
قال الغراب اعلم يا صديقي أنني لا أريد به شرا، ولا أكنّ له حقداً، فالكراهية تضر صاحبها قبل العدو، ومن حقد فسد حكمه وطاش صوابه في التصرفات، فيجب أن يبقى القلب خالصاً من العداوة، ويجب أن نمتنع عن فعل الشر، ونتعلم كيف نفعل الخير، ونطهر قلوبنا؛ فهذا أعظم زاد، ولكن هذا الخبيث لم يترك لنا حيلة في معالجته. قال صدقت.
ثم إن الاثنين اتفقا على خطة عجيبة، فذهب الغراب حتى اجتمع بجانب الشاطئ ببنت السلطان، وقد أرادت الاغتسال، فخلعت حليها وقلادتها، فخطفها ثم طار بها وحلق، فصرخت الفتاة؛ فاجتمع الجند، فأخبرتهم بخبر غراب البين، فحدقوا في السماء، فرأوا الغراب يتظاهر بأنه يحمل حملاً ثقيلاً، لا يقوى عليه، فطمع الجند في الوصول إليه، فركضوا باتجاهه؛ فحط ثم طار، مغرياً بالإمساك به، ومازال بهم بين حط وطيران، حتى اقترب من النخلة.
في هذه الأثناء كانت الأفعى نائمة في الظهيرة، تستمتع بقيلولة لطيفة، فلما سمعت الضجة أخرجت رأسها بحذر. وكان الغراب ينتظر هذه اللحظة الرائعة، فألقى القلادة الذهبية فوق رأس الثعبان، فرآه الناس فأقبلوا إليه يزفون ضرباً باليمين، بالعصي والأحذية وكل ما في أيديهم من سلاح، حتى جعلوه كالرميم، وارتاح الغراب ونجحت خطة ابن آوى.