المسافة بين القلوب

تأملاتُ الإثنين
.. ما مغزى العيش على الأرض بعد العبادة.. إلا ملاحقة العيش والتواصل بين الناس. العيش نتوسله ونحتاله لأنه في جُلـِّهِ دافع غريزي للبقاء والارتقاء. يبقى أن ما اعترى حياة البشر من اختلال إنما هو في تواصل الإنسان مع الإنسان، تواصل قلبك مع قلبي، وتواصل قلبي مع قلبك وقلوب الآخرين..
نتقدم في كل مراحل وصناعات الحياة، ونجتاز مسافاتٍ شاسعةً في جعل الحياة أسهل، وصلنا القمر، وأخذنا عينات كوكب المريخ، وتجسسنا على حدود المجرّة.. إلا أننا تراجعنا كثيرا في التواصل القريب الذي لا يبعد عشرات الكيلومترات مع من معنا بالمجتمع، وتراجعنا في التواصل في المسافات الأقرب مع أعضاء أحيائنا وجيراننا، وتراجع تواصلنا أحيانا أقل من المتر الواحد مع أهلنا وعائلاتنا. تطورت وسائلُ المواصلات من البرقية والفاكس وبريد إلكتروني تصل في اللحظة التي تكتبها، وترى التواصلَ يقلّ رغم ذلك بين أعضاء الأهل والمعارف المتوزعين في أنحاء الكوكب.
كان في الماضي تأتي الرسائلُ على الجمال ويتواصل الناس رغم المسافة والزمن، تحكي أمي وتقول إن أباها لم تقف صلاته وتبادل الشراكة التجارية مع معارفه وأقاربه وإخوانه في القصيم والبحرين والكويت، وكان جدّي تصله رسائل إخوانه من القصيم والبحرين والكويت، ومن أصدقاء طفولته في فلسطين ومصر والهند والبصرة.. الآن لم نعد نتعرف نحن الأحفادُ إلا أن التقينا صدفة، ثم نمضي الوقتَ كلٌ يحاول أن يصل إلى جذور معرفة الآخر، وإن افترقنا فعادة بلا موعد حقيقي للقاء والتواصل.
فقدنا لمستنا في أهم أغراض حياتنا تواصل القلب مع القلب. إن التواصلَ غرضٌ نبيل من مقومات الحياة، منه تتولد معاني وتطبيقات الانتماء والعلم والمعرفة والامتداد والتنوع والتوسع في الأفق الإنساني. لولا التواصل لما قام لنا شأنٌ كبشر. آن للقلب أن يخطو خطوته للقلب الآخر.
لي صديقٌ قضى معي أطول شطرا من عمري، كان لا يمر يومٌ لا نلتقي، ونسافر معا، وإن افتقد أحدنا الآخر أكثر من يومين أو ثلاثة طارت الحممُ برأسه أو برأسي، ونحرص على الخروج والتنزه على الكورنيش، واسمينا مشيتنا اليومية "وقت العلاج النفسي"، إيمانا بأن المشيَ يحسّن بشكل ملحوظ الحالة النفسية للإنسان، ونتحدث كثيرا كل منا يروي أحداث يومه ونستنتج منها معرفة وعبرا ونتناصح حولها، ونستعرض أفكارنا في كل مجال، فكم مقال ومقال أوحاه إلي ونحن نتكلم ونتبادل الرؤى ونتقايض الأفكار.. وكم من مسألةٍ مهمةٍ وبعضها في صميم العائلة أو لإنسان نعرفه حللناها معا، كلٌ يدلي بدلوه بطريقة تفكيره ومناهل معرفته ومشارب ثقافته التي صاغت رؤيته الشخصية في النظر للأمور. وكان إن تعدت علاقتنا فوصلت لأعضاء عائلتينا، فأمي تبحث عني إن تأخرت أول ما تبحث بمكالمته.. ثم خسرنا مع كثر الاتباطات، وحسبنا أن نعتلي شأنا أعلى في المجتمع، وتباعدت لقاءاتنا، من كل يوم تقريبا، كل أسبوع، ثم كل شهر، ثم صار .. على التساهيل! وتباعدتْ بعدها كصف حجر الدومينو كل ما نتج عن ارتباطاتنا من صلات.
في يومٍ عششت برأسي مشكلةٌ كبيرة، وآذتني، وأزعجت كل خلية بكياني، وصرت مأسورا تماما للمشكلة.. ولم أدر ما أعمل، إلا أني شعرت فجأة بشوقٍ عاصرٍ لحبيبي وصديقي، وكان قد مضى أكثر من ثلاثة أشهر لم أره. هاتفته تلفونيا، وأخبرته عن المشكلة. أقفلت المكالمة وقد تبخرتْ المشكلة بجملةٍ واحدةٍ منه نزلت في قلبي قبل عقلي، فتقبلها عقلي من قلبي.. قال لي: "مشكلتك لا تُحل، أمامك خياران: أما تحملها للنهاية أو تتعايش معها". أظن لو لم يقلها صديق مشارك حقيقي لوجودي لما أثّرتْ بي ذاك التأثير الحاسم. كل ما في الأمر أن القلبَ قرر أن يقترب من القلب.
- إقبلْ الحياة.. تقبلك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي