إغتصاب الذكريات
إغتصاب الذكريات
لا أستطيع أن أ ُنكر إعجابي بثلاثية أطياف الأزقـّة المهجورة "العدامة، الشميسي و الكراديب" و إن كنت أختلف مع بعض ما جاء فيها مثل ما إختلفت مع بعض ما قرأت في معظم الروايات الكلاسيكية. إلا أنها عمل رائع من كاتب يستحق التقدير. كما أنني لا أ ُنكر أن شهادتي في هذا العمل الجميل مجروحة إذ لم أقرأه قرأة ناقد، ليس فقط لأنني إقتصادي لا يجيد النقد الأدبي، بل لأن مشاعر الطفل و عاطفة المراهق سيطرة علي و انا أ ُقلـّب صفحات الرواية. فأنا مولود في مستشفى الشميسي، و هواء الشميسي كان أول ما دخل رئتي الصغيرتين عند الولادة. اما العدامة، فقد إحتظنت الكثير من ذكرياتي الجميلة كطفل و مراهق خلال الثلاثين عام التي أمضيتها في المنطقة الشرقية. وعندما قررت العودة إلا مسقط رأسي تاركا ً ورائي أقارب و رفقاء درب و كم ٍ هائل من لحظات النشوة و الإنكسار، كان اخر ما ودّعت هو أزقـّة العدامة لإجراء الفحوص الطبية في احد مستوصفاتها القديمة وفقا ً لمتطلبات جهة العمل. بالنسبة للكراديب، فلله الفضل والمنـّة، لم أعرفها ولا أنوي أن أعرفها إضافة ً كما أنني لا أتوقع أن أ ُقبل فيها لعدم قدرتي على إجتياز اي إختبار يتطلب الكثير من الجشع او الدناءة ناهيك عن التهور و الحماقة. لذلك، لم يكن للجزء الثالث اي قيمة عاطفية عندي ولا أستطيع أن أحكم علية من ناحية أدبية كما أن الموضوع لا يعنيني مهنياً.
بما أن كلانا، كاتب الثلاثية و أنا، قد تخرج من جامعة جنوب كاليفورنيا، مع فارق الدرجة العلمية و التخصص وعقدين من الزمان، والتي تأسست قبل اكثر من 130 سنة في أحياء لوس انجلوس القديمة؛ فكلانا يعرف أزقة لوس انجلوس جيداً و لي، على الأقل، في لوس انجلوس ذكريات شبيهه إلى حد ٍ ما بذكريات الشميسي و العدامة. لم أسأل نفسي لما لم تتحول الثلاثية إلى رباعية تتحدث ايضا ً عن محيط الجامعة الذي يضم أزقة مليئة بعقول شريرة أسهمت في تطوير مفاهيم و تطبيقات الجريمة المنظمة على مستوى العالم والتي صور المبدع، دانزيل واشنطن، جُزءً منها في فيلمه الشهير "يوم تدريب". توقعت أن السبب هو عدم منطقية التسمية إذ لايمكن أن تسمى بالأزقة المهجورة، من الممكن تسميتها بالأزقـّة العنيفة او القاسية إلا أنه ليس من المنطقي تسميتها بالمهجورة، فهي قلب لوس انجلوس النابض بالحياة.
عندما يشتاق أهالي الأحياء القديمة في لوس انجلوس لذكريات الطفولة او المراهقة صباح يوم سبتٍ مشمس؛ يرون بيوتهم القديمة و ملاعب الطفولة بجانب ناطحات سحاب تنافس في تصميمها عمالقة الفن المعماري. مباني شاهقة قادرة على تصوير أجمل الشوارع وأكبرها كأزقـّة صغيرة بعد أن تحجب عنها أشعة الشمس؛ كما تحتوي هذه المباني على مكاتب أشهر المحامين و الإدارات العامة لشركات عالمية يضاهي رأس مال إحداها الناتج المحلي لعدد من الدول مجتمعة. يرون جامعة جنوب كاليفورنيا شامخة ً بمبانيها الأنيقة ومكتباتها الستة عشر تعج بأعظم عقول الحاضر و المستقبل، بما أن الشيء بالشيء يذكر، فقد كان أحد خدمات هذه الجامعة للإنسانية هو المساهمة في إختراع الهاتف المحمول عن طريق طالبها المتميز اندرو ڤايتربي. علاوة ً على ذلك، يوجد في هذه الأحياء الأستاد الرياضي الذي إحتظن أولمبياد 1932 و 1984. كما يرون متحف العلوم و عدد كبير من المعالم التجارية و الرياضية و العلمية و الثقافية لا يفصل بين إحداهم و الآخر إلا مئات الأمتار من الأزقـّة المليئة بذكريات سكان العقود الماضية. اما عندما يشتاق أهالي الأزقـّة المهجورة لذكرياتهم صباح يوم خميس ٍ غائم ويتوجهون للتجول في الأحياء القديمة مع شرب كوب دافئ من القهوة؛ فلا يرون إلا أطلال حزينة يغتصب ذكرياتها أفواج العمالة الوافدة تحت ظِلال أكوام القمامة. أزقـّة تركها أهلها للقادمون من الشرق و لم تعد تعني لهم شيء.