فقدان الأب بين ألم الفراق ولذة المناجاة

فقدان الأب بين ألم الفراق ولذة المناجاة

لعل القارئ يتساءل قبل الشروع في قراءة هذا المقال ما عسى كاتب هذا المقال أن يضيف في موضوع كتبت فيه مئات المقالات إن لم أقل الآلاف ونظمت فيه القصائد الطوال قبل وبعد الإسلام, بل إنه موضوع تطرق إليه الجميع على اختلاف أجناسهم ودياناتهم وثقافاتهم وألوانهم. فألم الفقدان خصوصا فقدان الحبيب سيقت فيه الحكايات. بل ونطقت وتألمت من مرارته الجامدات فضلا عن غيرها. فالنبي صلى الله عليه وسلم حن له المنبر الذي كان يعتليه نبي الأمة صلوات ربي وسلامه عليه. فقد ذكر في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب إلى جذع نخلة فقالت امرأة من الأنصار وكان لها غلام نجار: يا رسول الله إن لي غلاما نجارا فآمره أن يتخذ لك منبرا تخطب عليه؟ قال: "بلى" فاتخذ له منبرا فلما كان يوم الجمعة خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فأنّ الجذع الذي كان يقوم عليه كما يئن الصبي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إن هذا بكى لما فقد من الذكر" وفي رواية البخاري فصاحت النخلة "جذع النخلة" صياح الصبي، ثم نزل صلى الله عليه وسلم فضمه إليه يئن أنين الصبي الذي يسكن، قال "كانت تبكي "النخلة" على ما كانت تسمع من الذكر عندها" ....
لكن يظل فقدان الحبيب نسبيا وليس مطلقا, خصوصا إذا علم أن اللقاء الحقيقي - بإذن الله - في الجنة وهو ما يخفف وطأة ألم فراق المتحابين في الله. فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر في الحديث الصحيح أن المتحابين في الله على منابر من نور يوم القيامة . فمن رحمة الله أن يجمع الذرية الصالحة في الجنة كما قال تعالى" والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإحسان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء" أسأل الله أن يجمعنا وإياك في جنات نعيم.
لعل وسطية الإسلام تجلت في كيفية التعامل مع ألم فراق الأحباب. فتعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع فراق ابنه إبراهيم يعتبر المنهج الوسط في التعامل مع مثل هذه الأحداث. فالحديث المعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم "إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون". كما أن الإيمان بالقضاء والقدر والصبر من أعمال القلوب التي تشكل ربع العبادة بمفهومها الشمولي. فالعبادة حسب أحد تعريفاتها أنها اسم جامع للمراتب الأربع قول القلب "الإيمان بالجنة والنار والملائكة" وعمل القلب "الإيمان بالقضاء والقدر والصبر عند المصائب" وعمل الجوارح "الصلاة والصوم والزكاة والحج وغيرها" وقول اللسان "ذكر الله والشهادة".
فأعمال القلوب أعظم من أعمال الجوارح كما هو معلوم لدى العارفين بالله. فأعمال القلوب تشكل قرابة ربع العبادة تقسيما وإن كانت أعظم منزلا ووزنا من أعمال الجوارح, كما ذكر ذلك ابن قيم الجوزية. بل إن سورة العصر تعبر عن المراتب الأربع عند المتأمل بها مليا, وهي السورة التي قال عنها الإمام الشافعي إنها لو ما أنزل الله محجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم. فالأعمال القلبية من أهم الفوارق بين أهل الإيمان وأهل النفاق. فالمنافقون يشاركون المؤمنين في أعمال الجوارح لكن قلوبهم خاوية من الإيمان الصادق.
لقد أدركت أن انعكاس الأعمال القلبية على الأخلاق يشكل المعادلة الحقيقية لحسن الخلق. كما أدركت أن عبادة الخفاء إذا قرنت مع عبادة الأعمال القلبية تشكل الحلقة التي يسعى لتحقيقها كل مسلم بل إنها عبادة الخفاء من أهم المثبتات على هذا الدين.
لقد تعلمت درسا كثيرا من وفاة والدي رحمه الله فهي مصداق لقول الشاعر:
وكانت في حياتك لي عظات وأنت اليوم أوعظ منك حيا
لقد علمت أنه من رحمة الله أن جعل من صفات أوليائه أنهم يحبون الخير لكل الناس بل لكل الكائنات ولا يدعون على احد بسوء إلا في نطاق تقتضي المصلحة القيام بذلك. وهو ما يعزز مفهوم حب لأخيك المسلم ما تحبه لنفسك. لذا لم يكن - رحمه الله - يدعو على أحد بسوء إلا إذا تقطعت سبل الإصلاح واقتضت المصلحة ذلك والتي انحصرت في ثلاث دعوات مستجابة يعرفها أبناء الفقيد رحمه الله. أما دعواه الطيبة النافعة فلم تقتصر على أبنائه بل لكل الناس.فكانت بحق المسلك الطبيعي لحياته رحمه الله.
لقد كان الوالد رحمه الله زاهدا فيما عند الناس فأحبه الناس وهو مصداق لحديث ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس. لعل محبة الناس تجلت في امتلاء المسجد وقت الصلاة عليه, علما بأن وقت ما بين إخبار الناس بموعد الصلاة عليه وبين الصلاة علية لم يتجاوز الساعتين. كما أن عدد الاتصالات ممن نعرف ومن لا نعرف أصبحت مناسبة للوعاظ للحديث عن علامات حسن الخاتمة. كما أن كثرة المشيعين في الجنائز كانت أحد ما يميز المؤمنين حقا من المبتدعين كما ذكر ذلك أحد السلف.
إتقان أسلوب التوجيه كانت أحد صفاته - رحمة الله ـ إذ لم يكن مباشرا منفرا للآخريين ولا حتى لأقرب الناس إليه. فلم يعرف عنه - رحمة الله - أنه عنف على مقصر أو وعظ بطريقة انفعالية بل كانت البسمة لا تفارق محياه - رحمه الله.
وكان رحوما مشفقا على العاصي أكثر من نفسه لعلي أجد أن التوجيه المباشر قد يرى الآمر فيه أنه أحس حالا من المقصر. فيدخل فيه الشيطان بحس خفي. فمصائد الشيطان كما ذكر ابن الجوزي تكون من تسعة وتسعين بابا للخير ومن باب واحد للشر. وكما روي عن على بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه كان في أحد المعارك ورفع سيفه ليضرب احد الكفار مع عنقه فبصق هذا المشرك في وجهه علي بن أبي طالب. فما كان منه رضي الله عنه ورحمه إلا وأن أنزل سيفه. وعندما سئل لما لم تضرب عنقه؟ فقال: لا أعلم إن كنت سأقتله لله أم انتقاما لنفسي. هذا الحس الرفيع بين العمل لله وبين الانتقام للنفس وللذات لا يقدر عليه إلا أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
لعل أعمال القلوب كالتواضع والتوكل والصبر وكظم الغيظ والعفو مع المقدرة من الأخلاق التي يطيب الحديث عنها لكن الالتزام بها كسلوك يومي وأسلوب للحياة تحتاج إلى عزيمة تهز الجبال.
فعبادة الجوارح قد يستطيع القيم بها من قال النبي صلى الله عليه وسلم عنهم بأنكم تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم وعبادتكم على عبادتهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية لأن أدركتهم لقتلنهم قتل عاد". ولست بذلك أقلل منها ومن أهميتها لأن الكثير من الخطب والمحاضرات تحدثت عنها لكن الأعمال القلبية وانعكاسها على حياة المسلم تحتاج إلى كثير من الوقفات والتأمل.
وكان أعمال الجوارح وذكر الله يشغل الجزء الأكبر من نشاطه - رحمه الله - فمن قام الليل وذكر الله تعالي إلى شروق الشمس ومن ثم صلاة الضحى إلى صيام البيض من كل شهر وملازمة لإمامة المسجد لمدة تجاوزت الواحد والخمسين عاما. وقد حدثنا أحد أقران الوالد فقال إنه كان يصلى الضحى وهو لم يتجاوز الثانية عشرة وكنا وقتها - كما يقول - لا نعرف صلاة الضحى.
ليس هدفي من هذا السياق ذكر مناقب والدي رحمه الله وهي عديدة ولكن تطبيق العبادة بمفهومها الشمولي هو ما كان يمتاز به حقيقا رحمه الله تعالى ومن ثم انعكس على تعامله مع نفسه ومع الآخرين. فحياته رحمه الله كانت لله كما أن وفاته كانت لله من رؤية المبشرات له سواء من تقرير الحادث الذي أشار لنا أن سبابته كانت مرفوعة وقت وفاته أو من رؤية المبشرات من وجهه المضي بنور الإيمان لمن شهد تغسيله ومن ثم دفنه. رحمك الله يا أبا إبراهيم حيا وميتا وأسكنك الله فسيح جنانه "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين".

عبدالوهاب بن عبدالله الخميس
[email protected]

الأكثر قراءة