فائض الميزانية ومستقبل الأجيال
بلغ فائض الميزانية لعام 2005م مائتين وثمانية عشر مليار ريال .. أكرر 218 مليار ريال!!! رقم هائل بجميع المقاييس، مَن الذي حققه؟ هل هو الأداء الحكومي الفعال؟ أم ترشيد الإنفاق الاستراتيجي؟ أم استثمارات مؤسسة النقد؟ أم أداء صندوق الاستثمارات العامة؟
هذا السؤال لم يطرحه جورج قرداحي في برنامج من سيربح المليون حتى تتصل بصديق أو تستعين بالجمهور أو تحذف إجابتين، فالأمر أهون من ذلك بكثير، فالجواب معلوم للجميع إنها منحة الله لهذه الأرض ولحكامها ولساكنيها بل حتى لزائريها والمقيمين عليها، إنها هبة الله لأرض الحرمين الشريفين ولمن يخدمهما بصدق وإخلاص.
لقد مرت علينا سنوات قاربت الـ 20 ونحن نسأل الله - سبحانه وتعالى - أن ينتهي العام المالي والميزانية متعادلة، تتساوى فيها النفقات مع الإيرادات، كان كل رجائنا ومنتهى أمانينا أن نصل إلى نهاية العام وتغيب عنا كلمة "عجز الموازنة "، فإذا بنا ولثلاثة أعوام متتالية نحقق فوائضا لم نحلم بها لأعوام مضت.
السؤال الأكثر تعقيداً يتعلق بالاستفسار عن تفاصيل هذا الفائض، حقيقةً وليس تقديراً، فعصر الشفافية يتطلب الإفصاح عن مصادر واستخدامات المال العام، فهل تتكرم علينا وزارة المالية بالإفصاح عن التفاصيل التي بني عليها هذا الفائض؟ أقصد التفاصيل الحقيقية، ولا يكفي ذلك فرجائي أن تكون التفاصيل والمعلومات دقيقة ودقيقة جداً، فقد ولى إلى غير رجعة عصر سرية المعلومات (غير المبرر)، وفي اعتقادي إن نشر المعلومات حتى لو كانت مزعجة أفضل من أن تكون المعلومة مجهولة مبهمة ينتج عنها بناء غير صحيح، حيث سيبني المجتمع دراساته وقراراته وأحكامه على معلومات غير حقيقية وتوقعات غير صحيحة وشائعات تهدم ولا تبني.
يتوقع الجميع أن يكون عهد الملك عبد الله ـ وفقه الله ـ عهداً مختلفاً، ليس في حجم الفائض فقط ولكن في كيفية التعامل معه، ولنا في قصة يوسف، عليه السلام، درس عميق، حيث أثارت هذه القصة انتباه الاقتصاديين إلى الدورة الاقتصادية التي تصيب الاقتصاد، حيث إن الرخاء يعقبه شدة، والقحط يتبعه الرخاء، بإذن الله، والأيام دول، وهذا الأمر يعرفه الاقتصاديون جيداً حيث إن لكل طفرة انحساراً والعبقري من استطاع أن يطيل فترة الطفرة لأطول مدة ممكنة، والحكيم من استفاد من قرشه الأبيض لمواجهة اليوم الأسود.
يدفعنا ذلك إلى رفع رجائنا إلى خادم الحرمين الشريفين، يتبع هذا الرجاء مطالبة المسؤولين بتوجيه الفائض لمواجهة القادم من الأيام! فالأجيال المقبلة لها نصيب من هذه الثروة التي نستخرجها من باطن الأرض ويستهلكها العالم كله بشراهة الجائع الذي لا يعرف الشبع، لذلك فإنه من باب العدل مع أبناء المستقبل أن نحفظ جزءاً من هذه الثروة لهم ولبناء مستقبلهم.
هذا إذا سلمنا فعلاً بأن هناك فائضاً حقيقياً، ولكن ما أراه أنا على الأقل أن هذا الفائض فائض شكلي، ولا يعبر بصدق عن واقعنا، إذ إن الفائض يجب أن يكون فعلاً ما هو زائد على الحاجة، فهل فائض ميزانيتنا زائد على الحاجة؟
تأملوا معي صورة سريعة وأمثلة لواقعنا الذي نعيشه اليوم:
1- الآلاف من المواطنين عندما يمرضون لا يجدون العلاج، ومدد الانتظار في المستشفيات الحكومية تطول حتى أصبحت بالأشهر.
2- عشرات الآلاف من المواطنين في المنطقتين الشرقية والغربية الذين تبعد مساكنهم عن محطة التحلية مئات الأمتار لا يشربون المياه المحلاة ليس رغبة منهم ولكن رغماً عنهم.
3- مئات الآلاف من المواطنين لا يملكون المساكن، ولا يزالون يحلمون بالحصول على قرض صندوق التنمية العقاري قبل وفاتهم.
4- مدارسنا تشكو من تكدس الطلاب في مبان مهترئة، تفتقد أبسط متطلبات الحياة التعليمية الصحية، والكثير من هذه المدارس مستأجرة لا تملكها الوزارة.
5- يتلازم ذلك مع العجز عن قبول الآلاف من خريجي الثانوية العامة الذين لا يجدون لهم مكاناً في جامعاتنا العتيدة بحجة امتلائها.
6- انقطاع الكهرباء في فصل الصيف يذكرنا بواقع دول غرب ووسط إفريقيا.
7- الكثير من المواطنين يشتكي من المياه التي لا تصل إلى مساكنهم، وإذا وصلت فهي تصب بشكل متقطع.
8- مشكلة الصرف الصحي (أكرمكم الله) الذي تطفح به شوارعنا، ولم يتم وصل الشبكة للمنازل حتى في الأحياء الجديدة، وقد لا يتم وصلها أبداً.
9- مَن منا لا يشتكي تصريف مياه السيول في المدن الرئيسية، فحبة مطر تغرق شوارعنا لأيام، وتحول خير السماء إلى كوارث على الأرض.
10- شوارعنا وطرقاتنا بدأت تضيق بالهواء فكيف بالسيارات والبشر، ومشوار الدقائق أصبح يأخذ الساعات الطوال، دون حلول عملية جذرية على أرض الواقع.
لا أريد أن أزيد ولو فعلت لاحتجت إلى مقال بمساحة جريدة.
إنني لا أطالب بالقضاء على الفائض بالتبذير وصرف أموالنا في ما لا ينفع، ولكني أدعو الله أن يتم ترشيد الإنفاق في المجالات الحيوية التي تغطي الحاجات الأساسية للمواطنين، والى أن يتم ذلك أقترح على المسؤولين في وزارة المالية تغيير مصطلح الفائض الذي يوحي بالرغد والرفاهية إلى "أموال غير مستخدمة" أو إلى "أموال فائضة ناتجة عن سوء التخطيط".