العمالة الرخيصة خلل للأمن وسبب تراجع مستوى الأجور
أكد الدكتور وديع أحمد كابلي أستاذ الاقتصاد في جامعة الملك عبد العزيز، أن وجود العمالة الوافدة الرخيصة والمتخلفة في سوق العمل السعودية يخل بالأمن ويسبب تراجعا في مستوى الأجور والمعيشة والأخلاق.
وقال في دراسة عن مشكلات البطالة والحلول: "تعتبر مشكلة البطالة من أكبر المشكلات الاقتصادية التي تواجه أي دولة في العالم، وتنعكس كذلك على الأوضاع السياسية والاجتماعية، فهي تولد التخلف الاقتصادي، وعدم الاستقرار السياسي، والشرور الاجتماعية والأخلاقية، فإذا كانت أقل من 5 في المائة فهي مقبولة، وإذا زادت على 10 في المائة فهي كارثة محتملة".
وبين كابلي أن حل المشكلة يكون بمواجهتها ووضع الحلول الجريئة التي تحتاج إلى وسائل جديدة ومبتكرة، وليس بتجاهلها أو انتظار أن تحل نفسها بنفسها، أو اتباع الأساليب القديمة في استعمال المسكنات فقط، فلابد من توافر الإرادة السياسية الفاعلة، والقدرة على مواجهة المعارضة التي ستنشأ من المستفيدين من وضع سوق العمل الحالي، والتخفيف من الجوانب السلبية لأي حل تكون فوائده تغلب على مضاره فليس هناك حلول سحرية ترضي الجميع، أو حلول لا تتطلب جرأة وبعض التضحيات.
واستطرد: "إن ربط مستوى الأجور بالإنتاجية لتتناسب مع مستوى المعيشة السائد في البلد ودون رفع نسبة التضخم يخفض عدد العمالة المطلوبة لأي عمل، بل يمكن خفض نسبة التضخم كلما ارتفع مستوى الإنتاجية، وبذلك يرتفع مستوى المعيشة إلى الحد الذي يحقق الرضا المادي والاحترام الاجتماعي للعامل، ويجعل الإقبال على الوظائف التي كانت تعتبر متدنية ولا تليق بكرامة العامل الوطني. وهذا سيرفع من مستوى العامل ويجعله رجلاً محترماً في مجتمعه، كما يرفع من مستوى البلد، بينما وجود العمالة الرخيصة المتخلفة يخفض من مستوى المعيشة ومستوى البلد بأكمله، ويخل بالأمن وينشر الرذيلة ويسبب تراجعا في مستوى الأجور والمعيشة والأخلاق وغيرها من الأمور".
وتطرق إلى أن نظام التعليم ساهم في تغيير هيكلية سوق العمل والتركيز على التعليم النظري، وعدد المتعلمين، وليس نوعية المتعلمين ومستوى إنتاجيتهم أو مهاراتهم، وأهمل جانب الخبرات المتراكمة ، وركز على الشهادات فقط، مما خلق وضعا اجتماعيا غريبا ومشوها لسوق العمل. أضف إلى ذلك أن الجيل الجديد الذي نشأ في زمن الوفرة والرفاهية تعود على سهولة الحياة، حيث إن تغير نمط الحياة للأسرة السعودية أدى إلى تغير نظرة المجتمع للعمل اليدوي والمهني فأصبح يحتقر العمل اليدوي والمهني الذي كان آباؤه وأجداده يقومون به في الماضي، حتى الزراعة ورعي الأغنام اللتين كانتا المصدر الوحيد للرزق، لم تنجوا من هذه النظرة الدونية، وأصبح كل مواطن يرغب في العمل الحكومي أو أن يكون رب العمل، أو الاثنين معا إن أمكنه ذلك.
وأضاف: "لقد أدى نظام التعليم دوره في الماضي من حيث نقل المجتمع من مجتمع أمي إلى مجتمع متعلم، ولكن لم يكن يهدف إلى تأهيل المواطن لاحتياجات سوق العمل لأن البطالة لم تكن مشكلة في ذلك الوقت، فلم نؤهل المزارع مثلا للزراعة الآلية الحديثة ذات الدخل المرتفع، أو الرعي على نطاق واسع، أو نتعلم ثقافة الطب البيطري لتحسين السلالات وزيادة الإنتاجية من اللحوم والألبان بالوسائل الحديثة كما في الدول المتقدمة. واكتفينا بفتح باب الاستقدام لهؤلاء من الدول الفقيرة ذات الدخل المنخفض للقيام بأعمال الزراعة والرعي، وهي موارد اقتصادية ذات عوائد مالية عالية لو استخدمت فيها الوسائل العلمية الحديثة مع كثافة رأس المال والآلات بدل جلب الآلاف من العمالة الرخيصة".
كما أصبحت التجارة في العمالة، مصدر رزق لقطاع كبير من المواطنين، وأصبحت التجارة في تأشيرات العمل مصدر رزق للبعض الآخر، وازدادت سوق العمل تشوها وانقلبت هيكلية سوق العمل وتدهورت فيه قيمة العمل في المجتمع، وأصبح كل سعودي يطمح إلى أن يكون هو صاحب العمل وليس عاملا. وأصبح مفهوم العمل سبة للعامل وليس فخرا له.
ولقد لعب القطاع العقاري دورا كبيرا في تدهور مفهوم وقيمة العمل في المجتمع ، فبعد أن كانت الأرض تشترى للبناء عليها، أو الاستفادة منها في مشروع، أصبحت تشترى لتباع، وتباع لتشترى، وتحول عدد هائل من المواطنين الى قطاع العقار إما تجار عقار أو سماسرة عقار وتركوا وظائفهم وأعمالهم المنتجة، إلى ذلك القطاع غير المنتج، لأنه يحقق أرباحا هائلة ودون جهد يذكر، فقيمة الأراضي دائما في ارتفاع مستمر(بسبب الاحتكار)، فكيف يمكن إقناع الشباب بالعمل وبقيمة العمل، وهم يرون أنه يمكن الحصول على دخول أفضل دون عمل، وعليه لا يمكن السماح باستمرار الوضع الحالي لسوق العمل السعودي، لأنه سيؤدي إلى نتائج كارثية لا محالة، وقد بدأت بوادرها في الظهور، وخصوصا مع التسارع في نمو القوى العاملة السعودية.
#2#
وفي الوقت ذاته لا يمكن أن نستمر في رمي الكرة في ملعب القطاع الخاص وإجباره على توظيف السعوديين، في الوقت الذي يقوم فيه القطاع الخاص بالاعتماد المفرط على العمالة الوافدة الرخيصة.
أما القطاع الخاص فإن الاقتصاد السعودي ينمو بوتيرة متسارعة ومعظم فرص العمل ذهبت إلى العمالة الوافدة، ولا يمكن وضع اللوم كله على القطاع الخاص فقط ، فرجل الأعمال يسعى إلى تحقيق الربح ويعمل بالتنافس مع غيره في الداخل والخارج، فهو في الحقيقة يستغل الفرص التي يتيحها نظام سوق العمل المحلي بكل أشكاله وتناقضاته، فهذه النظم تسمح له بالاعتماد على العمالة الأجنبية الوفيرة والرخيصة، والتي تعمل ساعات غير محددة وتلبي جميع الطلبات دون قيد أو شرط، وتتنازل في كثير من الأحيان عن حقوقها التي يوفرها نظام العمل، وكل ذلك بسبب أن نظام المناقصات الحكومية يطلب أقل الأسعار في تنفيذ أعماله ومشاريعه، ولا يستطيع السعودي الباحث عن عمل منافسة نظيره الأجنبي، سواء في الأجر أو ساعات العمل أو في ظروف العمل والمعيشة، فهو يعيش بين أهله وعشيرته وعليه التزامات عائلية واجتماعية متعددة، فهناك فرق شاسع بين مستوى المعيشة والأجور في السعودية، ومستوى الأجور والمعيشة السائد في دول مثل الهند وباكستان وبنجلادش والفلبين، ولذلك فإن المنافسة بين العمالة الأجنبية والعمالة المحلية محسومة مسبقا لمصلحة العمالة الأجنبية.
ونبه إلى إن رفع الحد الأدنى لأجور السعوديين وحدهم إلى ثلاثة آلاف ريال مثلا، لن يحل المشكلة، بل يزيدها اتساعا طالما ظل باب الاستقدام مفتوحا دون تنظيم دقيق أو ضوابط صحيحة. ويعتبر الحصول على العمالة الأجنبية بسهولة وبتكلفة منخفضة، أحد أهم أسباب مشكلة البطالة في السعوية، فلابد من رفع الحد الأدنى لجميع الأجور إلى ذلك المستوى، ما عدا العمالة المنزلية.
و رغم النمو الذي حققه الاقتصاد المحلي خلال العقد الماضي 2000-2010 إلا أن نسبة البطالة بين الشباب السعودي ارتفعت في الفترة نفسها بشكل مخيف، واشتد الشعور بالتهميش الاقتصادي والاجتماعي لدى خريجي الجامعات وجميع العاطلين عن العمل. وزادت نسبة البطالة المقنعة في القطاع الحكومي، وذلك بسبب التخطيط والتنفيذ السيئ للسياسات الاقتصادية والعمالية وسياسات الإحلال التي لم تكن مدروسة دراسة كافية، ولم يطبق بالطريقة الصحيحة، وعدم ربط نظام الحوافز الاقتصادية للقطاع الخاص بنظام الجزاءات للمخالفين، والاعتماد على إصدار تعليمات وأنظمة وقوانين متعارضة ومبهمة وغير واقعية في كثير من الأحيان. ورغم ضخامة تدفق رأس المال والاستثمارات الأجنبية خلال تلك الفترة، فإنها لم تسهم بقدر كاف في تنويع القاعدة الاقتصادية، أو تخفيض مستوى البطالة، أو نقل التقنية الحديثة، أو تدريب وتطوير الأيدي العاملة السعودية، مع الأسف الشديد، وتركزت أهمها في قطاع الهيدروكربونات، وزادت من استقدام العمالة الأجنبية ولم تخفضها.
وأشار إلى أن العديد من رجال الأعمال والمستفيدين من الوضع الحالي لسوق العمل، ومن بيع التأشيرات ومن التستر، يستخدم فزاعة التضخم، فيما لو زادت الحكومة رواتب موظفيها، أو رفعت الحد الأدنى للأجور، حيث إن الأجور والرواتب جزء من تكلفة الإنتاج، مما يؤدي إلى رفع الأسعار للمواطنين، ثم يعودون إلى طلب زيادة الرواتب والأجور، وهكذا وهذه نصف الحقيقة وليس كلها، حيث يمكن تحقيق زيادة الأجور دون زيادة نسبة التضخم، فالتحدي الحقيقي هو في كيفية تحقيق توظيف العمالة الوطنية وخريجي الجامعات ورفع مستوى الأجور دون رفع مستوى التضخم، أو بتضخم محدود يتناسب مع مستوى الأجور المرتفعة ويحقق في النهاية رفع مستوى المعيشة الحقيقي، ولكن في ظل البيئة الاقتصادية السائدة، وسوق العمل الحالية، تنعدم المنافسة أو الحوافز على رفع الإنتاجية أو استخدام الميكنة والتقنيات الحديثة، وإعادة تنظيم العملية الإنتاجية في جميع المرافق الاقتصادية بشكل حديث، وذلك بسبب المنافسة الشديدة على توظيف العمالة الرخيصة، مما يقلل من الحوافز للاستثمار طويل الأجل في التدريب والتأهيل أو الإنفاق على الميكنة والتقنيات الحديثة الموفرة للعمالة. فعندما ينخفض الطلب على المهارات، يقل معروضها، ويعزف الأفراد عن الاستثمار في التدريب والتأهيل المطلوب، كما يحجم رجال الأعمال عن الإنفاق على التدريب والتأهيل للعمالة الوطنية طالما توافرت العمالة الأجنبية الرخيصة.
وشدد كابلي على ضرورة إعادة هيكلة سوق العمل، حيث لابد من إعادة الهيكلة، وتوفير فرص عمل جديدة بأجور مرتفعة للمواطنين وتقليص عدد العمالة الوافدة المنخفضة الكفاءة والأجور، ودون إصلاح وإعادة هيكلة سوق العمل سيضطر القطاع العام إلى توظيف أعداد متزايدة من المواطنين، وتحمل عبء القضاء على مشكلة البطالة بمفرده وخلق مزيد من التشوه في سوق العمل. كذلك يمكن السماح للعمالة الماهرة الوافدة بإحضار أسرهم مما يؤدي إلى زيادة وانتعاش الاستهلاك المحلي وتخفيض نسبة التحويلات الخارجية وزيادة نسبة مضاعفات الإنفاق المالي المحلي، مما يزيد من نسبة النمو وارتفاع مستوى المعيشة.
ولفت إلى أن رفع مستوى الأجور والامتيازات والحوافز التي يقدمها القطاع الخاص للعاملين، سيؤدي إلى رفع مستوى الإنتاجية، ورفع مستوى أخلاقيات العمل للعمالة الوطنية، ومستوى الولاء للمؤسسات الوطنية وعدم التنقل من وظيفة إلى أخرى لفرق بسيط في الأجر. وأشار إلى الميكنة في التوظيف، حيث لو تم توظيف مواطن واحد مقابل كل عدة عاملين أجانب فإن هذا لن يرفع معدل التضخم بل قد يخفضه.