الدعيع.. الاستثمار الحقيقي
قليلون هم النجوم الحقيقيون الذين يدونون أسماءهم في سجلات التاريخ كعلامة مسجلة في سماء النجومية، ومن أجلهم تتأزم الأقلام التي تدور في فلك الجدلية حول من هم الأساطير في عالم كرة القدم، وكلٌ يغني على وقع أسطورته المفضلة عبر ذائقة "انظروا إليه بعينيَّ"، ولا خلاف هنا لأن الجميع له الأحقية المطلقة في تفضيل من يراه وفقاً للاعتبارات والمقاييس المتعددة التي يعتقد أنها تتوافر في هذا اللاعب عن غيره، وحتى "فيفا" أعلى سلطة رياضية وهو المعني بتكريم اللاعبين وتقييمهم وقع في فخ هذا الكمين النقدي أثناء اختيار أفضل لاعب على مستوى العالم، ولم تنقذه إلا سياسة الترضية والدبلوماسية الذكية التي وزّعت جائزة أفضل لاعب في القرن الماضي بين بيليه ومارادونا.
وإذا أردنا التعمق في جدلية المقارنات، ولا سيما على صعيد الحراس فلا أظن أنها تنطبق على العملاق محمد الدعيع، إذ لا حارس أجدر منه بلقب أسطورة على الصعيد المحلي أو الخليجي أو الآسيوي، ولست هنا بصدد الحديث عما قدمه الأخطبوط طوال مسيرته الرياضية في نادييه الطائي والهلال أو المنتخب، أو استعراض نجوميته وبراعته التي تصدّت لعطش الملاعب، وروّته بربيع الخشبات الثلاث، وأعذب إبداعات يمكن أن تنساب من حارس كبير بمكانة محمد الدعيع.
ما أنا بصدد طرحه هو التساؤل المهم الذي يحتاج إلى أن نفكر فيه بعمق ونظرة مستقبلية، ولا سيما أننا نودع غداً حارساً كبيراً قلّ أن تجود الملاعب بمثله: أين نحن من استثمار نجومنا الكبار؟ أو أين نجومنا الكبار من استثمار نجوميتهم؟
لا شك أن الوفاء والتقدير والتكريم للنجوم الذين أثروا تاريخنا الرياضي تسير عليه معظم الأندية السعودية، وهو عمل جميل تشكر عليه ويدخل في سياق استثمار النجوم أيضاً، لكن العمل الأجمل والمهم يجب أن يبدأ من الآن في ظل أزمة ندرة المواهب التي تمر بها كرة القدم السعودية، وبما أننا في مجال تكريم حارس استطاع فرض مسيرته الذهبية، فمن باب "التأثر والتأثير" الواسع، لماذا لا نستلهم تجارب وخبرات أوروبا التي تعد أفضل قارة تنجب الحراس عالمياً، عبر الأكاديميات الخاصة بتدريب واكتشاف حراس المرمى؟
هذا الاهتمام الأكاديمي الكروي تمخض عنه ولادة جيل من عمالقة حماية العرين أمثال بيتر شمايكل وأوليفر كان ووالتر زينجا وبوفون وكاسياس وغيرهم كثيرون، وكان من نتائجه أن رأينا الحارس الألماني "كان" يقدم دروسا نظرية لتجربته الثرية عبر كتاب " النجاح يأتي من الداخل"، الذي ينهل من معين مسيرته وتاريخه الثري، ودروسا عملية وهي الأهم سخر فيها خبرته من أجل تدريب واكتشاف الحراس البراعم في شرق آسيا، بل إن تجربة الحارس الدنماركي شمايكل العبقرية أثرت في صقل موهبة ابنه كاسبر حارس مرمى ليدز الإنجليزي ولو عن طريق الملاحظة والتقليد، فتوج الابن هذه الموهبة بالانضمام لمنتخب الدنمارك، ليحافظ على سيرة معلمه الأب الذي قاد منتخب بلاده لكأس أوروبا 1992.
إذن بناء على هذه التجارب النظرية والتطبيقية.. لماذا لا نستثمر فرصة تكريم الحارس الكبير في إرساء خريطة طريق نحدد فيها معالم الاستثمار الحقيقي للنجوم، فما دمنا نملك رأس المال المتمثل في تاريخ الدعيع ونجوميته الفذة، فلماذا لا يبادر القائمون على الرياضة أو الأندية المستفيدة مباشرة باستثمار نجومية فريدة كهذه لتكون على هرم أكاديمية متخصصة في تدريب حراس المرمى واكتشافهم وصقل مواهبهم؟ وأين جيل الرواد من التطوير الذاتي لقدراتهم المتمثل في الدورات المتخصصة عالمياً؟
الأمر الآخر المهم أيضاً ماذا لو قام النجم الكبير باستثمار خبراته التي قدمها في الملاعب عبر نزوله إلى أرض الميدان لتدريب الحراس في أحد الأندية، مع الشروع في سلسلة مذكرات وسيرة توثيقية مدعمة بأدق تفاصيل مسيرته بين الخشبات الثلاث، لينهل منها الجميع، مستثمرا حب الجماهير ووفاء الأندية ووقفة أعضاء الشرف والشركات الراعية.. أليس هذا هو الاستثمار الحقيقي؟
على الأقل سنضمن "دعيع" آخر على غرار كاسبر شمايكل!