أزمة الكهرباء .. المطلوب تشخيص الداء قبل وصف الدواء

أزمة الكهرباء .. المطلوب تشخيص الداء قبل وصف الدواء

<a href="mailto:[email protected]">[email protected]</a> أخيراً خرجت الشركة السعودية للكهرباء عن صمتها حول موضوع الأزمة التي تمرّ بها الشركة الذي أثاره تصريح معالي المهندس محمود عبد الله طيبة رئيس مجلس الإدارة ونائب رئيس مجلس الشورى في 22/6/2006، وما أعقبها من انقطاعات في مدينة الرياض وإجراءات تقنين الاستهلاك في المصانع في مدينة الرياض والمنطقة الشرقية بما في ذلك مدينة الجبيل الصناعية. وكان فحوى تصريح معالي المهندس محمود طيبة أن أوضاع الشركة حرجة، وأنها تواجه عقبات وصعوبات تهدد التطور والنهوض في المملكة. وقد نشر هذا التصريح في إحدى الصحف المحلية تحت عنوان "طيبة لا يستبعد انقطاع الكهرباء في بعض المدن". وأود الإشارة هنا إلى نقطتين مهمتين وردتا في تصريح معاليه. النقطة الأولى هي قوله "إن محطات إنتاج الكهرباء تعمل بطاقتها القصوى"، وهذا يعني عدم توافر احتياطي لمقابلة أي زيادة قد تطرأ على الأحمال أو في حالة حدوث عطل طارئ لأحد المولدات الرئيسية أو إحدى محطات التحلية التي تزود شركة الكهرباء بنحو 12 في المائة من احتياجاتها من الطاقة. وهذا هو ما حدث بالفعل في شهر آب (أغسطس) الماضي في الشبكة المترابطة التي تخدم المنطقتين الوسطى والشرقية عندما انفصلت إحدى وحدات التوليد في محطة القرية "وهي وحدة رئيسية" عن الخدمة، الأمر الذي أدى إلى انقطاعات في مناطق شتى واضطرت الشركة إلى تقنين الاستهلاك بين المصانع في مدينة الرياض والمنطقة الشرقية. ومن الواضح لمن هو على دراية بتركيبة شبكة الكهرباء للشركة السعودية، فإن فحوى تصريح معالي المهندس محمود طيبة ينصب أساسا على وضع الشبكة المترابطة، إلا أنه يمكن القول إنه ينسحب أيضا على وضع شبكة المنطقة الغربية التي تخدم المدن الرئيسية "مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة والطائف وما بينها وما حولها". وقد تحدثت مع أحد المسؤولين عن التوليد في الشركة الذي أفاد بأن وضع شبكة المنطقة الغربية أفضل نوعا ما عن مثيلتها الشبكة المترابطة، ولكن هذا التميز النسبي لن يطول وأنه في تقديره أن الأولى ستكون في وضع الأخرى في خلال عامين على الأكثر. أما النقطة المهمة الثانية التي وردت في تصريح المهندس محمود طيبة هي قوله "إن أي مشاريع جديدة للكهرباء تحتاج إلى مدة تراوح بين 30 و42 شهرا من تاريخ القرار في المضي في تنفيذها قبل أن تدخل في الخدمة". وهذه إشارة واضحة إلى أن النكد "نكد الانقطاعات" غير مستبعد بالمرة، والمهم هنا هو العمل على اختصار فترة الانقطاعات المتوقعة إلى أقل حد ممكن، وهذا بالنسبة لشبكة المنطقة الغربية التي تخدم مكة المكرمة والمدينة المنورة، وخاصة أن شهري رمضان وذا الحجة يزحفان عاما بعد عام نحو أشهر الصيف ابتداء من هذا العام وحتى قرابة عشرة مواسم قادمة. وفي تقديري الشخصي أنه لو بُدئ في ترسية مشاريع التعزيز اللازمة في نهاية هذا العام فلربما أمكن الحد من عدد مواسم الانقطاعات إلى موسم واحد أو موسمين على الأكثر. أما إذا ما تأخر البت في مشاريع التعزيز اللازمة عن نهاية هذا العام، فسوف تستمر مواسم الانقطاعات إلى أن يعتاد الناس عليها وتصبح انقطاعات الكهرباء جزءا من حياة الفرد تماما، كما كان الحال عليه في السبعينيات الميلادية، وشتان ما بين ذلك الزمان وهذه الأيام. وقد وجه العديد من الكتاب انتقادات عدة إلى شركة الكهرباء في رأيي أنها لم تكن تستحقها، وذلك لأن المشكلة الحالية هي مشكلة ليست من صنعها، وترجع أسبابها إلى عوامل لا يد للشركة فيها. فقد كتب الأستاذ علي الشدي يقول إن "شركة الكهرباء كمن يسير في الظلام ولا يدري أي وقت تتعثر قدماه ويسقط". وهنا أود أن أؤكد للقراء من خلال تجربتي المحدودة "والقديمة" في قطاع الكهرباء أن شركة الكهرباء تستطيع أن تقدر الوقت الذي قد تتعثر فيه على بعد لا يقل عن ثلاث سنوات من الزمان. وفي يقيني أن الأزمة المالية الحالية التي تمر بها الشركة لم تكن مفاجئة للقائمين على قطاع الكهرباء والمتصلين به، وأفترض أن القائمين على شؤون الشركة سواء رئيس مجلس إدارتها أو العضو التنفيذي قد قاما بما يمكن القيام به للتحذير والإنذار. كما لمست في البيان الأخير لشركة الكهرباء أن هناك من انتقدها على أساس أنها تعاني من ترهل إداري. وأعتقد أن المقصود هنا هو أن المصروفات الإدارية للشركة مرتفعة، ويجب تقليصها بالتقليل من عدد الموظفين، وخاصة ممن يحتلون مناصب ذات رواتب عالية. وأنا شخصيا لمست في الماضي أن هذه النقطة هي دائما أول ما ينظر إليه عندما يأتي الحديث عن أن شركة الكهرباء شركة خاسرة لا تحقق أرباحا. وللأسف الشديد أن مثل هذه النظرة وأمثالها إنما هي وليدة قلة إلمام بطبيعة أعمال الشركة وتركيبتها الاقتصادية. ويكفي في هذا المجال الإشارة إلى أن المصروفات الإدارية للشركة السعودية للكهرباء تمثل ما نسبته 1.6 في المائة من إجمالي مصروفات التشغيل في عام 2005. وأرجو ألا يؤخذ قولي هذا على أنه دفاع عن شركة الكهرباء، فهي أقدر على الدفاع عن نفسها وتفنيد الاتهامات الموجهة لها بشكل أوضح وأشمل. ولكن المقصود هنا هو محاولة توجيه أصحاب الرأي وأصحاب القرار إلى التركيز على الأسباب الفعلية التي أوصلت شركة الكهرباء السعودية – وهي أكبر مرفق للكهرباء في منطقة الشرق الأوسط – إلى هذا المستوى المحزن والمؤلم معا والباعث على القلق فوق كل هذا. إن أزمة الكهرباء هذا العام وفي الأعوام الماضية أسبابها مالية بحتة، كما ذكر المتحدث الرسمي باسم الشركة في البيان الذي صدر بتاريخ 5/9/2006. ويمكن استخلاص الأمر من واقع تقرير مراجعي حسابات الشركة للعام 2005، حيث ورد أن صافي النقد الناتج من الأنشطة التشغيلية هو مبلغ 9.7 مليار ريال، في حين بلغ صافي النقد المستخدم في الأنشطة الاستثمارية 11.5 مليار ريال. وهذا يعني أن هناك عجزا في السيولة النقدية. وهذا العجز هو عجز مزمن وليس وليد الحاضر. إن إقراض شركات الكهرباء هو إحدى أمنيات البنوك ومؤسسات الإقراض، إلا أن شركة بهذا الوضع المالي لا يمكن أن تقنع جهة تمويلية بإقراضها لأنها تعاني من عجز كبير في السيولة النقدية، الأمر الذي لا يمكّنها من سداد القروض الجديدة. ولذلك فإن الحل المطلوب لا بد أن يؤدي إلى زيادة صافي النقد الناتج من الأنشطة التشغيلية بحيث تزيد عن صافي النقد المستخدم في الأنشطة الاستثمارية، وبمعنى آخر توفير السيولة اللازمة للشركة. وهذا لا يتأتى أساسا إلا بزيادة صافي الدخل – أي زيادة الإيرادات وخفض النفقات. إن العجز المالي الذي تعاني منه شركة الكهرباء في الوقت الحاضر ما هو إلا نتيجة حتمية لقرارات سابقة تتعلق بسياسة الكهرباء اتخذت خلال الـ 32 سنة الماضية، في ظل مراحل اقتصادية متفاوتة كان أولها القرار الذي اتخذته الدولة عام 1974م، بتوحيد تعرفة الكهرباء على مستوى المملكة بأسعار تقل عن التكلفة الفعلية. ولتعويض شركات الكهرباء القائمة آنذاك عن الخسائر التي ستلحق بها نتيجة تطبيق هذه التعرفة قررت الدولة تغطية هذه الخسائر بما عرف بإعانة الكهرباء. في ذلك الوقت كان عدد المشتركين على مستوى المملكة لا يتجاوز 350 ألف مشترك ومقدار الطاقة المباعة لا يتجاوز 3.850.000 ميجاواط/ ساعة. وفي خلال الفترة ما بين عامي 1395هـ - 1403هـ (1975 – 1983م)، التي تمثل فترة الطفرة، ازداد عدد المشتركين بمقدار أربعة أضعاف، كما ازداد مقدار الطاقة المباعة بمقدار ثمانية أضعاف، وذلك نتيجة عوامل الطفرة، وبفضل الدعم المادي السخي الذي قدمته الدولة إلى شركات الكهرباء في شكل قروض رأسمالية ميسرة ضمن برنامج خاص أسسته الدولة لإقراض شركات الكهرباء تحت إدارة صندوق التنمية الصناعية. وكان من الطبيعي أن يقفز مبلغ الإعانة التي كانت تقدمها الدولة لشركات الكهرباء على نحو لم يكن يخطر على البال. وفي عام 1983 بدأت آثار انهيار أسعار البترول تظهر على نفقات الدولة. وكانت إعانة الكهرباء من بين الضحايا. وفي عام 1985م ألغي برنامج إقراض شركات الكهرباء. وبالرغم من كل هذا، ولأسباب بديهية، استمرت شركات الكهرباء التي أصبحت موحدة خلال الفترة ما بين عامي 1396 و1401هـ في بيع التيار بموجب التعرفة المخفضة التي عدلت بعض الشيء في السنوات التالية، ولكنها مازالت مخفضة. كما التزمت الشركات الموحدة بتنفيذ السياسة التي وضعتها الدولة في فترة الطفرة والقائمة على أساس "أن من حق كل مواطن أينما كان أن يتمتع بالكهرباء". كل هذه التطورات أحدثت ضغوطا مالية هائلة على شركات الكهرباء الموحدة وأثرت سلبا على قدراتها لمواكبة النمو المتزايد في الطلب على الخدمات الكهربائية. وإزاء هذا الوضع اضطرت الدولة إلى رفع تعرفة استهلاك الكهرباء عدة مرات اعتبارا من عام 1405هـ وحتى عام 1415هـ حينما أضافت الدولة رسما على الاستهلاك قدره خمسة هللات لكل ك/ و/س للاستهلاك الزائد على 2000 ك وس في الشهر يذهب إيراده إلى صندوق تشرف عليه لجنة وزارية وينفق ريع هذا الصندوق لتمويل مشاريع الكهرباء المهمة والعاجلة. واستمر الحال على هذا المنوال إلى نهاية عام 1420هـ. وفي نهاية عام 1420هـ اتخذت الدولة قرارين استراتيجيين مهمين لتعديل وضع قطاع الكهرباء بهدف تحسين أدائه. وكان أولهما هو دمع جميع مرافق الكهرباء في المملكة "باستثناء مرفق الكهرباء التابع للهيئة الملكية في مدينة ينبع الصناعية" في شركة واحدة هي الشركة السعودية للكهرباء. أما القرار الثاني فهو يتعلق بتعرفة استهلاك الكهرباء التي تم تعديلها على أساس مبدأين رئيسيين: المبدأ الأول: أن يعتمد قطاع الكهرباء على إيراد مبيعاته لسد نفقاته التشغيلية والرأسمالية وتحقيق أرباح لعموم المساهمين، بما فيهم الدولة (وهي المساهم الرئيسي في هذه الشركة). المبدأ الثاني: أن يدعم الموسرون ذوي الدخول المتدنية. وصدرت التعرفة الجديدة مكوّنة من تسع شرائح أقلها خمس هللات وأعلاها 38 هللة. وبعد تطبيق هذه التعرفة لمدة سبعة أشهر تمت إعادة النظر فيها وجرى تعديلها بحيث أصبحت مكونة من ثماني شرائح أقلها خمسة هللات وأعلاها 26 هللة. إلا أن تجربة السنوات الخمس الماضية أثبتت أن العلاج الذي قررته الدولة لم يكن مجديا، مما نتج عنه الأزمة المالية التي تعيشها الشركة السعودية للكهرباء في الوقت الحاضر. وقد ذكر معالي المهندس محمود طيبة في نهاية تصريحه المشهور (حسبما ورد في صحيفة "الحياة" بتاريخ 22/6/2006)، "أن الشركة الآن في وضع لا تحسد عليه وهي تستحق الدعم والمساندة بكل الوسائل". وأود أن أضيف هنا "بل إن الشركة في وضع محزن ومأساوي" فمن كان يتصور بأن الشبكة المتصلة التي كانت في الماضي كهرباء الشرقية وكهرباء الوسطى سيأتي عليها يوم تقنن استهلاك الكهرباء في مصانع المنطقة الوسطى والمنطقة الشرقية بما فيها الصناعات القائمة في مدينة الجبيل الصناعية، وذلك بسبب خروج أحد المولدات الرئيسية من الخدمة بشكل طارئ؟ كهرباء الشرقية بالذات كانت أكبر الشركات الموحدة بمراحل وأقلها تكلفة في التشغيل وأكثرها ربحية، يأتي عليها يوم تضطر فيه إلى تقنين الاستهلاك في أكبر وأهم المناطق الصناعية في المملكة بسبب عدم توافر احتياطي لديها لمواجهة الحالة الطارئة التي حدثت! إن استمرار هذا الوضع الذي تعيشه شركة الكهرباء ليس في مصلحة أحد، وستنعكس آثاره السلبية على الاقتصاد الوطني. لذلك فإنه من الضروري إعادة النظر في هيكلة اقتصاد قطاع الكهرباء على أسس واقعية تأخذ في الاعتبار الخلفية التاريخية لهذه المشكلة. وقد يدعو البعض إلى النظر في إمكانية زيادة التعرفة، وقد يكون هذا أمرا واردا، إلا أنه ليس هو البديل الوحيد. فهناك بدائل أخرى يجب أخذها في الاعتبار وليس هذا مجال بحثها، بل إن الأمر يجب أن يترك لأهل الخبرة والاختصاص. والمهم هنا هو تشخيص الداء قبل وصف الدواء. والله من وراء القصد
إنشرها

أضف تعليق