مصر وأمنها المائي في خطر .. تحديات ما بعد مبارك

لقد أدرك المصريون بعد نجاح ثورتهم المجيدة في 25 كانون الثاني (يناير) الماضي، أنهم أطاحوا بأركان دولة بوليسية عتيدة تعيد إلى الأذهان خبرة دول أوروبا الشرقية زمن الحرب الباردة. تحدث الجميع قبل الثورة عن الفساد والمحسوبية وظلم أهل الثقة، لكن لم يتصور أحد طبيعة السياسة المصرية في عهد مبارك على نحو صحيح. إنه بعد كشف المستور في قلاع مباحث أمن دولة مبارك أفاق المصريون على كابوس رهيب. أصل الداء في مصر على مدى ثلاثة عقود من الزمان لم يكن في رأس النظام، إنما في تمدده بشكل سرطاني ليشمل كل قطاعات المجتمع لينال كل منها نصيبه من الفساد وسوء الإدارة.
ولعل أول ثمن باهظ كان على مصر أن تدفعه بعد رحيل مبارك يتمثل في أمنها المائي، وهي قضية تتعلق بوجود المجتمع المصري ذاته وبمقومات حياته وعماد بقائه. ففي ظل انشغال المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي آلت إليه إدارة أمور البلاد والعباد في مصر المحروسة بعد رحيل فرعونها إلى منفاه الاختياري في ''إمارة'' شرم الشيخ، جاءت الأنباء إلى القاهرة كالصاعقة. ربما لم يلتفت الإعلام المصري في بادئ الأمر، فهو منشغل بمتابعة أخبار المعتصمين في ميدان التحرير، وبسقوط ''الباستيل'' المصري، وبأخبار الفساد والمفسدين في العصر البائد.
وبعدما ذهبت السكرة وجاءت الفكرة أدرك الجميع حقيقة ما حدث في حوض النيل. لقد قررت بوروندي في نهاية شباط (فبراير) الماضي التوقيع على اتفاق التعاون الإطاري لدول حوض النيل، الذي يتم التفاوض بشأنه منذ عام 1999 وإذا أخذنا في الاعتبار أن خمسا من دول أعالي النيل هي: كينيا، إثيوبيا، تنزانيا، أوغندا، ورواندا، كانت قد وقعت من قبل على هذا الاتفاق فإن ذلك يعني اكتمال النصاب القانوني له كي يصبح نافذا، وعليه فمن المتوقع بعد انتهاء التصديق على الاتفاقية من قبل برلمانات الدول الأعضاء الموقعة عليها أن يتم إنشاء مفوضية حوض النيل في مدينة عنتيبي الأوغندية، التي يخول لها حق تقرير مشروعات تنمية وتطوير مياه النيل داخل الدول الأعضاء.

محاولة للفهم والتفسير
ما الذي حدث خطأ؟ وما الذي أدى إلى تغيير موقف بوروندي في هذا التوقيت؟ ففي تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2010 صرح مستشار رئيس بوروندي محمد روكارا بعد لقائه الرئيس السابق حسني مبارك بأن ''بوروندي لن تتخذ أبدا موقفا يتعارض مع ''المصالح المصرية الحيوية''. لقد ذهب بعض المحللين المصريين إلى القول بالتفسير التآمري والانتهازي من قبل بعض دول حوض النيل، حيث تم استغلال ظروف عدم الاستقرار السياسي في مصر بعد سقوط مبارك من أجل تمرير اتفاق حوض النيل الجديد من دون موافقة كل من مصر والسودان.
وعلى أية حال نستطيع الإشارة إلى ثلاثة أسباب جوهرية أدت إلى هذا الفشل المصري الواضح في تأمين مياه النيل وحماية أمن مصر القومي:
أولا: التلويح دائما باستعداد مصر لاستخدام القوة المسلحة لتأمين حصتها من مياه النيل، فالخطاب السياسي المصري منذ عهد محمد علي باشا حتى حسني مبارك عادة ما كان ينظر إلى مسألة مياه النيل باعتبارها خطا أحمر لا يمكن تجاوزه ولا يمكن التفاوض بشأنه، والمقولة الأثيرة لدى الدبلوماسية المصرية والأجهزة الحكومية المعنية هي أن لمصر حقوقا تاريخية في مياه النيل ولا بد من الدفاع عنها بشتى الطرق، ولعل مثل هذا الخطاب هو الذي أدى إلى خلق حالة من الشك وعدم الثقة لدى دول حوض النيل الأخرى. ولم أستغرب أثناء زيارتي بعض عواصم دول حوض النيل مثل نيروبي ودار السلام وجود رأي عام إفريقي معاد تماما للسياسية المائية المصرية تجاه دول أعالي النيل.
لقد حاولت مصر في عهد الخديوي إسماعيل بسط سيطرتها العسكرية على بحيرة فكتوريا في شرق إفريقيا، فضلا عن تكليف المستكشف البريطاني صمويل بيكر بالقيام بمهمة استطلاعية في أوغندا لمصلحة الخديوي. ودأبت الحكومات المصرية المتعاقبة منذ ذلك الوقت على النظر إلى مسألة مياه النيل باعتبارها مسألة حياة أو موت بالنسبة للمصريين. وفي منتصف السبعينيات من القرن الماضي هدد الرئيس الراحل أنور السادات باستخدام القوة العسكرية لتدمير أية مشروعات مائية تقوم إثيوبيا ببنائها على نهر النيل.
وتظهر تسريبات ويكيليكس أن إدارة الرئيس السابق حسني مبارك قد سارت على هذا النهج وهددت مرارا بإمكانية اللجوء إلى استخدام القوة في حال تعرضت مصالح مصر المائية للخطر. وطبقا لإحدى البرقيات السرية التي أرسلها دبلوماسيون أمريكيون إلى واشنطن فإن إدارة مبارك رأت أن ''حصول مصر عل حصتها الثابتة من مياه النيل يعد مسألة أمن قومي، وأن إنشاء أي نظام جديد يهدد هذه الحصة سينظر إليه باعتباره تهديدا جسيما لأمن مصر''، وتشير هذه الوثائق التي صدرت عام 2009 إلى أن مصر شعرت بأنها واقعة تحت تهديد جسيم بعد تمرد دول أعالي النيل عليها وتحدي حصتها التاريخية من مياه النيل التي تبلغ نحو 55.5 مليار متر مكعب مقدرة عند أسوان.
ثانيا: تجاهل القارة الإفريقية في إطار الحركة الخارجية لمصر طوال عهد الرئيس مبارك، إذ فشلت الحكومات المصرية المتعاقبة على مدى عقود ثلاثة في تأسيس وترسيخ علاقات استراتيجية مع الدول الإفريقية، ولا سيما دول أعالي النيل، فالرئيس مبارك الذي لجأ في أواخر عهده إلى الإقامة في قصره المنيف في مدينة شرم الشيخ لم يفضل زيارة إفريقيا، حيث كان مقصده دائما شمالا حيث أوروبا والولايات المتحدة. وإذا كان ذلك هو حال رأس الدولة فإن كبار الساسة والدبلوماسيين المصريين ساروا على الدرب نفسه، حيث إنهم جالوا في معظمهم أرجاء العالم شرقه وغربه إلا إفريقيا التي لم تحظ منهم بأدنى اهتمام. لقد اتسمت الدبلوماسية المصرية في تعاملها مع القضايا الإفريقية بدرجة واضحة من عدم الاكتراث والبطء الشديد في رد الفعل لمواجهة الأخطار الاستراتيجية في منطقة حوض النيل. وربما يكون تمسك الدبلوماسية المصرية بالإطار القانوني لمياه نهر النيل، الذي يعد نتاجا للعصر الاستعماري، السبب الأساسي الذي دفع بدول حوض النهر إلى محاولة البحث عن إطار جديد للتعاون يحظى بموافقة جميع الدول المشاطئة لنهر النيل.
ففي عام 1929 قامت بريطانيا، نيابة عن بعض دول حوض النيل، بالتوقيع على اتفاقية مائية مع مصر لتوزيع مياه النيل. وطبقا لنصوص هذه الاتفاقية حصلت مصر على 55.5 مليار متر مكعب سنويا من جملة 84 مليار مترمكعب تتدفق عبر السودان سنويا. وعارضت دول شرق إفريقيا بقوة اتفاقية عام 1929 باعتبارها تمت في العهد الاستعماري ولا تأخذ مصالح دول أعالي النيل في الاعتبار، كما أنها تعطي مصر حق ''الفيتو''، أي النقض ضد أي مشروع للري أو لإنتاج الطاقة الكهربائية في دول أعالي النيل.
وطبقا لاتفاقية عام 1959 بين مصر والسودان تم تأكيد حصة مصر من مياه النيل، كما حصلت السودان على 18 مليار مترمكعب من المياه سنويا. يعني ذلك من الناحية الواقعية أن دولتي المصب، مصر والسودان، تحصلان وحدهما على نحو 90 في المائة من جملة إيرادات نهر النيل. وظلت السياسة المصرية تتمسك باتفاقيتي عام 1929 و1959 باعتبارهما الأساس التاريخي والقانوني الذي يحكم الاستخدام المشترك لمياه النيل.
ثالثا: عدم فهم التطورات في دول أعالي النيل، ولا سيما بعد نهاية فترة الحرب الباردة. لقد ظلت مقولات عدم الاستقرار السياسي في إفريقيا وانتشار الصراعات العرقية والإثنية في دول حوض النيل هي التي تحكم توجهات السياسية الخارجية المصرية تجاه القارة السمراء على مدى عقود طويلة. وأحسب أن ذلك يمثل خطأ استراتيجيا فادحا. إذ اتسم السلوك المصري الخارجي تجاه إفريقيا في عهد مبارك بالتخبط وعدم الفهم وسوء التقدير؛ وهو ما أدى إلى نتائج كارثية نالت من أهم دعائم الأمن القومي المصري، الذي يرتبط مباشرة بأمن المجتمع نفسه. أليست مسألة مياه النيل هي شريان حياة المصريين؟!
لقد استطاعت إثيوبيا، التي تسهم بنحو 85 في المائة من إجمالي موارد مياه النيل التي تأتي إلى مصر عبر النيل الأزرق، ترسيخ دعائم قوتها الإقليمية في منطقة شرق إفريقيا منذ عام 1991، أي بعد الإطاحة بنظام حكم مانجستو هيلا مريام. وإذا أخذنا في الاعتبار انهيار الصومال وانقسام السودان إلى دولتين، لعلمنا أن ميزان القوة الإقليمية أصبح لمصلحة إثيوبيا بلا منازع. ومن جهة أخرى فإن كينيا التي تسعى بشكل برجماتي إلى القيام بدور اقتصادي فاعل في المنطقة تطمح إلى أن تقود حركة تجمع شرق إفريقيا مع كل من تنزانيا وأوغندا. وأعيدت هيكلة وإحياء هذا التجمع عام 1999 بعد توقيع اتفاقية أروشا، ثم انضمت إليه لاحقا كل من رواندا وبوروندي.
ولا يخفى أن هذه التطورات الإقليمية في المنطقة الإفريقية أعادت صياغتها من الناحية الجيوستراتيجية، ولا سيما بعد مرحلة انتهاء الحرب الباردة. كما شهدت في ظل الحملة العالمية على الإرهاب إعادة صياغة التحالفات الإقليمية والدولية. ويمكن أن نشير في ذلك إلى الوجود العسكري الأمريكي والأوروبي في شرق إفريقيا، فضلا عن تدعيم العلاقات الاستخباراتية الغربية مع معظم دول حوض النيل. واللافت للنظر هنا أن إسرائيل لم تكن قط بمعزل عن هذه التطورات، حيث إنها رسخت أقدامها في منطقة حوض النيل من خلال استخدام أدوات سياستها الناعمة المتعددة.

ما العمل؟
إن مصر أمام أزمة حقيقية تهدد بقاءها كأمة عريقة. وأحسب أن هذه الأزمة هي تجسيد لميراث طويل من السياسات الخاطئة التي انتهجها حكامها على مدى فترات زمنية طويلة، فمصر التي تعاني زيادة سكانية ضاغطة ستدخل لا محالة عصر الندرة المائية. وفي اعتقادي فإن مشروعات مصر التنموية الضخمة التي تم البدء بتنفيذها منذ العقد الماضي ومقرر لها الانتهاء بحلول عام 2017 ستتعرض لمخاطر جمة. لقد كان من المفترض أن تؤدي هذه المشروعات إلى:
أولا: زيادة مساحة مصر الزراعية بنحو 35 في المائة بعد إضافة الأراضي المروية في سيناء وأجزاء من مصر الغربية والجنوبية الغربية.
ثانيا: توسيع نسبة الأراضي المأهولة بالسكان في مصر لتصل إلى نحو 25 في المائة من إجمالي المساحة الكلية، وهو ما يؤدي إلى جذب نحو 16 مليون شخص إلى المدن الجديدة في الأراضي المستصلحة في توشكا ومناطق جنوب مصر.
ثالثا: توفير الصرف الصحي الآمن لنحو 60 في المائة من إجمالي السكان في مصر بنهاية هذه الفترة، أي بحلول عام 2017 .
واللافت للانتباه أن تنفيذ هذه المشروعات يستوجب نحو 97.8 مليار متر مكعب من المياه سنويا، وهو ما يفوق حصة مصر الحالية من مياه النيل التي تبلغ نحو 55.5 مليار متر مكعب فقط سنويا.
إن مصر الجديدة بعد مبارك مطالبة بإعادة صياغة استراتيجيتها الإفريقية من أجل إقامة حوار استراتيجي بينها وبين الدول الإفريقية يقوم على الاعتراف المتبادل بالمصالح المشتركة ويؤسس لعهد جديد تستطيع من خلاله مصر أن تكسب عقول وقلوب الأفارقة بما تمتلكه من أدوات قوتها الناعمة. إننا في مصر المحروسة أكثر من أي وقت مضى في حاجة إلى توظيف أدوات النفوذ المصري الناعم في السودان وباقي دول حوض النيل؛ حتى نتمكن من إصلاح ما أفسده السابقون من حكامنا. وأحسب أن مصر الحرة الديمقراطية أقدر عن الدفاع عن مصالحها ومكتسباتها من أي وقت مضى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي