Author

المناطق التقنية لدعم التنمية الصناعية

|
مع تطور الصناعة وتقدم التكنولوجيا، أصبح المستثمرون الصناعيون يبحثون عن البيئة الصناعية المناسبة التي تهيئ لهم سبل النجاح وتوفر الاحتياجات الأساسية لممارسة الأنشطة الاستثمارية. وأصبحت الدول النامية تتسابق من أجل توفير المناطق التقنية واستخدامها كعامل جذب للاستثمارات الأجنبية. تعتبر المناطق التقنية الحاضنة الشرعية أو البيئة التي تنشأ من خلالها الصناعات التقنية المختلفة، لا يمكن أن تتحقق استراتيجيات التنمية الصناعية دون أن تدعمها بنية تحتية متكاملة تساعد على إنشاء الصناعات التقنية المتقدمة، وتعمل على جذب الاستثمارات الضخمة لدعم الاقتصاد الوطني. أصبحت الاستثمارات الصناعية التقنية تبحث عن البيئة المناسبة التي يمكن من خلالها تشييد المصانع التقنية وممارسة عملياتها الإنتاجية بكل يسر وسهولة، لذا لم يكن مستغربا أن تكون المناطق التقنية ذات البنية التحتية المتقدمة عامل جذب للاستثمارات الأجنبية وعامل دعم لقيام الصناعات الوطنية. المملكة العربية السعودية لديها تجربة مشرقة في صناعة البتروكيماويات التي أنشئت من أجلها مناطق الصناعات التقنية. كانت فكرة إنشاء مدينتين صناعيتين على الخليج العربي والبحر الأحمر ضربا من الخيال في حينه، فالدولة التي لم تعرف للصناعة طريقا، باستثناء صناعة النفط، تفكر في تأسيس صناعات تقنية ضخمة تنافس بها المنتجات العالمية. ترجمت الفكرة إلى واقع ملموس من خلال إنشاء مدينتي الجبيل وينبع الصناعيتين. تولت الدولة إعداد البنية التحتية للصناعات التقنية فأنشأت مدينتين صناعيتين متكاملتين شكلتا القاعدة التي انطلقت منها صناعة البتروكيماويات السعودية، ثم أنشأت شركة سابك التي أصبحت، بفضل الله، عملاق الصناعة البتروكيماوية في العالم. لم يكن الأمر ممكنا لولا قيام منطقتي الصناعات التقنية ذات الإمكانيات المتطورة والبنية التحتية المتكاملة. المناطق التقنية لا يمكن لها أن تقوم بمعزل عن البيئة المحيطة، لذا تشكلت المدن السكنية في محيطها وأنشئت المدارس والجامعات والمستشفيات ما ساعد كثيرا على عملية التنمية المصاحبة للتنمية الأساسية، حيث شكلتا مجتمعتين تنمية شاملة تدفع في جميع الاتجاهات. لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن كثيراً من الشركات العالمية أصبحت مهتمة بالبيئة التقنية المتوافرة في المملكة، ما دفعها إلى الاستثمار فيها من خلال عقد الشراكات والتكتلات الصناعية الضخمة التي تصب في مصلحة الاقتصاد الوطني من خلال الصادرات والقيمة المضافة إلى الناتج المحلي. الكثير من الصناعات المتوسطة أنشئت في المدينتين مستفيدة من البيئة الصناعية المحيطة، ومستغلة البنية التحتية المتطورة. تجربة ناجحة بكل المقاييس، وإن كان يشوبها بعض التحفظ في الأمور المتعلقة بشؤون حماية البيئة، ولكن مثل هذا الأمر يمكن السيطرة عليه بفرض قوانين بيئية صارمة وإنشاء مراكز متخصصة مستقلة تهتم بمراقبة البيئة على مدار الساعة. تجربة إنشاء المدن التقنية تشجع كثيرا على إعادة التجربة وتعميمها على مناطق المملكة، فالمدن التقنية إضافة إلى ما تحققه من دعم مباشر لقيام التكتلات الصناعية الداعمة للاقتصاد الوطني من خلال تنويع مصادر الدخل وتوزيع المخاطر وزيادة الإنتاجية، فإنها تساعد كثيرا على الارتقاء بمستوى التعليم وتركز على التخصص التقني الذي يمثل مستقبل الصناعة الواعدة. مناطق الصناعات التقنية تسهم أيضا في رفع الكفاءة الإنتاجية وتسهم في تنمية ثقافة الشعوب وإمكاناتهم العلمية والعملية وتساعد أيضا على تنمية المدن القريبة وزيادة دخل الفرد وتطوير المجتمع والقضاء على البطالة. هل ينتهي الأمر عند مدينتي الجبيل وينبع؟ وهل يكتفى بصناعة البتروكيماويات على اعتبار أنها إحدى الصناعات التقنية؟ الإجابة عادة ما تأتي بحسب الطموح، وطموح المملكة أكبر من أن يقف عند هذا الحد، لذا جاءت مدينة الملك عبد الله الاقتصادية التي تشتمل على ست مناطق رئيسية، وهي: الميناء البحري، المنطقة الصناعية المتخصصة لتلبية احتياجات الشركات الصناعية كافة الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، المرافق الشاطئية، والجزيرة المالية المزمع إنشاؤها بالقرب من مدينة رابغ الصناعية لتكمل مسيرة المدن التقنية والاقتصادية المتخصصة. البتروكيماويات كانت الصناعة التقنية الأولى بالنسبة على المملكة، كما أن مدينتي الجبيل وينبع كانتا التجربة الأولى في إنشاء مدن الصناعات التقنية. التجربة كانت ناجحة بكل المقاييس وجنت الدولة منها الكثير على مستوى الإنتاج والدخل والتنمية والتطوير، ما جعلها أكثر قبولا لإنشاء مدن تقنية أخرى لصناعات مختلفة. إذا كانت صناعة البتروكيماويات قد اعتمدت على اللقيم المنتج محليا وهو الغاز، فإن تقنية الطاقة ستعتمد اعتمادا كليا على الإنتاج النفطي الغزير. السوق المحلية بحاجة إلى مواد الطاقة الأساسية من غاز ومواد نفطية مكررة تسد الطلب المحلي على منتجات الطاقة. تقنية المعلومات والاتصالات تعدان من أهم التقنيات العالمية وعلى الرغم من ذلك فإن السوق السعودية ما زالت تفتقر إلى مثل هذه التقنيات المتقدمة. تقنية الإلكترونيات والأدوات الدقيقة هي التقنية التي جعلت من اليابان منافسا رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، وأسهمت في فتح أبواب الصناعة على مصراعيها لليابانيين. هناك مدن سعودية ذات كثافة سكانية عالية وهناك فوائض مالية ضخمة توافرت من ميزانية العام 2005 تقابلها احتياجات اقتصادية وتقنية ملحة لزيادة الاستثمارات الصناعية. كل ذلك يدفع نحو التوسع في بناء المدن والصناعات التقنية. نتمنى أن تنشأ المدن التقنية في جميع مناطق المملكة حسب استراتيجية دقيقة تمهد لدخول المملكة للأسواق العالمية. الاستثمار في المدن التقنية لن يكون سهلا، كما أنه ليس بالأمر العسير، لكنه يحتاج إلى ميزانيات ضخمة ربما تتجاوز إمكانات رجال الأعمال، أو بشكل أدق إنهم لا يرغبون في المغامرة في مثل هذا الحجم من الاستثمارات، لذا نتمنى أن تتولى الدولة دعم الصناعات التقنية من خلال إنشاء المدن التقنية والتدرج في إنشائها بحسب الأولوية والحاجة. إنشاء البنية التحتية وتهيئة البيئة المناسبة لقيام الصناعات التقنية سيساعدان كثيرا في جذب الاستثمارات التقنية الأجنبية منها والمحلية.
إنشرها