الشباب هم الأكثر استهلاكا والأقل إنتاجا
شهدت الولايات المتحدة الأمريكية فترة ازدهار اقتصادي متميز في التسعينيات ويعود الفضل في استمرار هذا الازدهار الاقتصادي لفترة زمنية قاربت السنوات العشر إلى عدم وجود ضغوط تضخمية مؤثرة. وهنا وفي كل مرة كان محافظ البنك المركزي يقدم شهادته الدورية أمام الكونجرس يشار إلى النمو المطرد في الإنتاجية هو العامل الرئيس الذي حرر حركة الاقتصاد من العائق التضخمي وجعله ينطلق إلى مستويات عالية وغير مسبوقة. ونحن في بدايات قرن جديد وفي ظل ثورة علمية وتقنية ستغير من حياتنا كليا وفي إطار عولمة اقتصادية وإعلامية ستطيح بكل الحدود بين الدول والشعوب, في إطار كل هذا التغير الذي سيشهده العالم تتنافس دول العالم المتقدم لتطوير الإنتاجية في بلدانها لأنها المدخل الأهم لتعزيز قدرتها التنافسية وبالتالي المحافظة على ما تنعم به من مستويات معاشية عالية. وفي المقابل تعاني الدول النامية من أزمة حقيقية في الإنتاج وهذا يقلل من قدرتها على اللحاق بركب التقدم لأن المسافة بينها وبين العالم المتقدم تتسع مع مرور الزمن. ففي دراسة قامت بها الأمم المتحدة منذ سنوات وشملت عددا كبيرا من دول العالم, حيث أظهرت هذه الدراسة أن الإنسان الأمريكي ينتج ما يعادل 12 ساعة لكل ثمان ساعات يوميا وأما الإنسان الياباني فهو ينتج 14 ساعة لكل ثماني ساعات يوميا, ونجد أن الإنسان في إسرائيل ينتج ما يعادل 16 ساعة لكل ثماني ساعات يوميا, وفي المقابل نجد أن الإنسان العربي ينتج ما يعادل ساعتين فقط لكل ثماني ساعات يوميا، ولعل في هذا سر تخلفنا وتقدم الآخرين. وإذا كانت الدول المتقدمة تعاني من شيخوخة بسبب تدني مستوى النمو السكاني فيها واتساع شريحة الكبار عندها فإننا في المقابل مجتمعات شابة حيث إن الشباب عندنا وهم الذين دون سن الـ 30 من العمر الشريحة الأكبر في مجتمعاتنا وبالتالي يفترض أن ننتج أكثر منهم لو أننا أحسنا استثمار هذه الثروة البشرية الضخمة. إننا نوجه الكثير من مواردنا التنموية إلى إعاشة وتعليم وتدريب وإعداد هذه الأجيال الشابة ووجودهم يعني الحاجة إلى موارد كبيرة للوفاء بمستلزماتهم وسد حاجاتهم وبالتالي فنحن أمام خيارين صعبين. الخيار الأول هو ألا نخصص للشباب ما يكفيهم من الموارد كما هو الحال في الكثير من البلدان وبالتالي يكون تعليمهم ضعيفا وإعدادهم ركيكا وهذا في النهاية يعني ألا مستقبل لهم ولا تنمية حقيقية لأوطانهم. أما الخيار الثاني فهو إشراكهم في عملية الإنتاج وبالتالي تكون لهم مساهمة في إعداد أنفسهم، وهذا الخيار هو ما اتبعته الدول المتقدمة مع قلة شبابهم وكثرة عندنا بشرط أن نخطط لهذه المشاركة وأن نحسن من إدارتها. نظرة فاحصة لحال شبابنا اليوم نجد أنهم في الغالب معطلون, فهم يأكلون ويشربون ويلبسون ويلعبون ولا ينتجون شيئا. فأكثر من يرتاد المطاعم ويأكل الكبسة ويطلب المندي والأكلات السريعة هم من الشباب ونحن علينا أن نبني لهم المطاعم ونشيّد لهم المقاهي ونجلب لهم العمال الأجانب للخدمة في هذه الأماكن وما نريده على الأقل هو أن يتكفل هؤلاء الشباب في تشغيل هذه الخدمات ليستفيدوا ويفيدوا. والشباب في العادة هم الأكثر استهلاكا للمشروبات الغازية والبطاطس والحلويات وغيرها من الآكلات باعتبار أن من وصل منا إلى الـ 40 قد أصابه السكر والضغط وغيرها من أمراض السمنة، ونحن علينا أن نبني المصانع والمحلات ونستورد المعدات وآلاف العمال لتشغيل مثل هذه المصانع. كل هذا من وجهة نظر اقتصادية بحتة استثمارات ناجحة, فالطلب على مثل هذه الطلبات كبير والعائد منها مجز ووفير, ولكن هل هو حقا استثمار يعزز من تنميتنا ويقوي من اقتصادنا ويعود بالنفع على أجيالنا المقبلة. إذا كانت الحاجة هي أم الاختراع فإن الغاية هي أم النجاح، وبالتالي فهؤلاء الشباب هم أكثر من يمتلكون الصحة والنشاط والوقت وحب المخاطرة والتعرف على الجديد وبالتالي علينا أن ننظر إليهم على أنهم مكون رئيس في نهوضنا وتعزيز قدراتنا. من الخطأ أن نجعل من مرحلة الشباب فقط مرحلة استهلاك وإعداد للمستقبل لأن الإعداد الحقيقي لهم هو في مساهمتهم ومشاركتهم في إنتاج هذا المستقبل. ومن أجل تبسيط هذه الفكرة وجعلها أكثر وضوحا نستعرض جملة من الأفكار التي ربما الأخذ بها قد يساعد في إعداد البيئة المنتجة لشبابنا وجعلهم أكثر عطاء وأرشد استهلاكا.
1- تفعيل فكرة العمل الجزئي part-time work في مرحلة الشباب. هناك الكثير من الأعمال التي لا تحتاج إلى مهارات متخصصة و بإمكان الشباب من ممارستها وهم يواصلون تعليمهم ودراستهم. في الدول المتقدمة تعتمد الكثير من الشركات وبالأخص منها الصغيرة والمتوسطة على عمالة غير متفرغة كليا للعمل وخصوصا طلاب الجامعات وبذلك تكون لهؤلاء الطلاب مساهمة وعمل منتج في مجتمعاتهم. ففي الجامعات مثلا نرى أن الطلاب يعملون في مختلف الخدمات التي تقدمها الجامعة, فأغلب من يعمل في مطاعمها هم من الطلاب, والطلاب هم الذين يديرون المكتبة بجميع أنشطتها وهم الذين تناط بهم مسؤولية الكثير من الأنشطة الأكاديمية واللاكاديمية، ولنا أن نتصور كم سيستفيد هذا الطالب من وجوده في هذه الجامعة. في المقابل نرى الطالب عندنا في العادة معطلا وليس له دور أو مساهمة في أنشطة الجامعة التي ينتمي إليها. نستقطب أساتذة لتدريس المواد الأولية والأساسية وعندنا من الطلاب في المراحل العليا وهم متميزون وباستطاعتهم القيام بهذه المهمة وترانا نتعاقد لجلب موظفين وعمال للقيام بالكثير من الأعمال البسيطة ولا نكلف أنفسنا بتدريب بعض طلابنا للقيام بهذه المهمات وبذلك ينفعون وينتفعون. حتى في الدول النامية نرى أن الشباب وهم في مرحلة تعليمهم لهم مشاركة عملية في الأعمال والحرف الخاصة بأهلهم وإما الحال عندنا فهناك فصل تام وتغييب كامل للشباب وكأن العمل والتعليم لا يجتمعان ولا يكملان بعضهما البعض.
2- نحن بحاجة إلى خطط وطنية نسعى من خلالها إلى استثمار ما يملكه هؤلاء الشباب من وقت وقدرات وبالأخص في العطلات المدرسية, فمن الخطأ أن ننشغل فقط بكيفية إشغالهم وإلهائهم باللعب والترفيه وإن كان هذا مطلبا ضروريا ومهما ولكن مهمة إعدادهم وتنمية قدراتهم وإشراكهم في بناء مجتمعاتهم هي الأخرى من المطالب المهمة والضرورية. ولا يكفي أن نوكل هذه المهمة إلى مكاتب العمل لتوزيعهم هنا وهناك من دون أن نؤسس لهم البيئة العملية المنتجة. ولعل هناك خطورة محتملة من دوام هذه الممارسة, فالشركات لا تنظر بجدية لعمل هؤلاء الشباب باعتبار أن العملية مفروضة ومرتجلة ومن دون أهداف واضحة ومتابعة جادة وأيضا هذه التجربة قد تكرس عند الطلاب نظرتهم السلبية تجاه العمل لما يروه من عدم الثقة بهم من طرف هذه الشركات وأن العملية هي مجرد محاولة إشغالهم ولو بأعمال غير منتجة. علينا أن نولي هذا الموضوع جل اهتمامنا من خلال إعداد البرامج والتنسيق مع القطاع العام والخاص وأن ننظر إلى هؤلاء الشباب على أنهم ثروة يجب استثمارها وتوظيفها بالشكل جيد وبالطريقة التي تعود عليهم وعلى الوطن بالخير والمنفعة.وأما إذا بقي الموضوع عندنا هو مجرد الفراغ الذي يعاني منه الشباب والحل عندنا دائما هو كيفية إشغالهم انتظارا لعودتهم إلى مقاعد الدراسة فهذا هو تضييع لثروة يحسدنا عليها الغير.
3- هناك خلل واضح في نظامنا التعليمي الأساسي والجامعي, فالتعليم عندنا هو مجرد علوم ومعارف وليس هناك اهتمام يعطى لاكتساب المهارات الفكرية والعملية. فالطالب عندنا هو وعاء نسكب فيه من المعلومات والمعارف من دون إثارة واستثارة لفكر وذهن الطالب, فالسؤال ممنوع والمناقشة محرمة والاختلاف مذموم والخروج بالموضوع عن إطاره التقليدي هو إرباك للدرس وتضييع للوقت. كل ما هو مطلوب من الطالب هو أن يحفظ ما يسمع وأن يكتب ما يحفظ وإذا نجح فعليه أن يحتفظ بهذه الأمانة سالمة من دون زيادة أو نقصان ليرددها مع نفسه أو ينقلها إلى غيره. هذا النوع من التعليم لا يصنع من شبابنا إنسانا منتجا وفعالا, فالسؤال والبحث عن المعلومة والمراجعة والنقاش والحوار هي كلها أبواب مهمة لتحصيل المعرفة وهي مهمة لبناء عقل منفتح ومنتج للمعرفة والأفكار وليس مستهلكا لها فقط. إن مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا يجب أن يعاد تشكيلها من حيث البناء ومن حيث ما تأخذ به من مناهج تعليمية لأن مدرسة اليوم ليست هي فقط حجرات وفصول للدراسة, بل يجب أن تعطى أهمية للمعامل والورش والمكتبات. إن التعليم المطلوب في عالم اليوم هو التعليم المهاري وليس تعليم معرفة فقط. من الضروري أن ندخل اكتساب المهارات في نظامنا التعليمي وهذا يتطلب الأخذ بمفهوم التعليم الذاتي حتى يتاح وقت كاف من يوم الطالب لتعلم مهارات مختلفة. لم يعد مقبولا ولا مجديا أن نهتم فقط بحشو ذهن الطالب بالمعلومات ونغفل عن أهمية إكسابه المهارات المطلوبة لجعله فردا منتجا قادرا على اكتساب المزيد من هذه المعارف وتوظيفها بالقدر الذي تجعله قادرا على تطوير نفسه والمساهمة في تطوير مجتمعه.
تتويجا لما سبق تبقى نقطة واحدة ومهمة وهي ضرورة التقرب إلى الشباب لمعرفة حاجاتهم والتعرف على المشاكل التي يعانون منها وإيجاد الآليات المناسبة التي تساعدهم في التعبير عما يريدون إيصاله إلينا. وقد يتوهم البعض ويرى أن هذا الكم الكبير من الشباب ما هو إلا عقبة ومصدر للكثير من المشاكل التي نعاني منها تنمويا واجتماعيا. إننا ربما أكثر أمم العالم اتهاما للظروف تبريرا لمشاكلنا وتنظيرا لعجزنا وتسويقا لفشلنا, فالشباب قوة لنا لا علينا, والشباب حركة ونشاط إن لم نحسن توظيفه وتوجيهه فسينقلب علينا خرابا وفسادا. وبعد كل هذا يحق لنا أن نتساءل: أين نحن من شبابنا, وأين نحن من هذه الثروة والنعمة العظيمة؟