التصرف في العقارات البلدية: قضية وتعليق

في عددها الصادر يوم الأربعاء 4/5/1431هـ الموافق 28/4/2010م، نشرت جريدة (المدينة) خبراً مفاده أن مستثمراً استأجر من أمانة محافظة جدة أرضا تقع في قلب مدينة جدة لمدة 20عاماً من أجل إقامة مركز تجاري وسكني، إلا أن أمانة محافظة جدة قامت بتطبيق منحة على الأرض المؤجرة، وبالتالي فقد انتقلت ملكية الأرض إلى صاحب المنحة الذي قام بدوره ببيعها بعد ذلك لرجل أعمال شهير في تجارة العطور ومستحضرات التجميل. وأضاف محرر الخبر قائلاً: ''إن وجه الغرابة في القضية أن ديوان المظالم حكم بتنفيذ عقد التأجير مع أن الموقع ليس مملوكاً للأمانة في الوقت الحاضر من منطلق أن تطبيق المنح لا يحول دون تنفيذ عقود الإيجار بغرض الاستثمار). وصرح وكيل المستثمر أن حكم ديوان المظالم ضد أمانة محافظة جدة حظي بموافقة المقام السامي، وأن موكله رفع دعوى أمام المحكمة الإدارية في ديوان المظالم ضد أمانة محافظة جدة للمطالبة بدفع 70 مليون ريال كتعويض عن الأضرار التي لحقت بموكله خلال عشر سنوات نتيجة الخطأ الذي ارتكبته بمنحها الأرض لطرف ثالث بعد إبرام عقد الإيجار، مما حرم موكله من الانتفاع بالأرض طوال هذه المدة. كما أن موكله رفع دعوى أخرى أمام المحكمة العامة ضد المالك الحالي للأرض لإلزامه بتسليم العين المؤجرة لتمكين موكله من الانتفاع بها إلا أن المدعى عليه لم يحضر الجلسة الماضية، وأنه في حالة استمرار المدعى عليه في المماطلة والغياب فإن من حق موكله أن يطلب إصدار حكم غيابي ضد المدعى عليه استناداً إلى المادة (55) من نظام المرافعات الشرعية.
هذه بإيجاز وقائع هذه القضية التي انفردت جريدة ''المدينة'' بنشر خبرها، وهنا لنا وقفة للتعليق فنقول ما يلي:
أولاً: تنقسم الملكية في فقه الشريعة الإسلامية الغراء إلى نوعين رئيسين هما ملكية تامة وملكية ناقصة، فالملكية التامة هي ما كان للمالك حق التصرف المطلق في الشيء نفسه المملوك وفي منفعته، بمعنى أن يكون مالكاً لرقبة العين المحازة، ومنفعتها فيحق له أن يستغلها أو يبيعها أو يؤجرها أو يهبها أو يتصرف فيها بأي تصرف ناقل للملكية. أما الملكية الناقصة فهي التي لم يجتمع فيها ملك رقبة العين وجميع منفعتها في يد واحد، وإنما كان مالك الرقبة غير مالك المنفعة جميعها أو بعضها سواء أكانت المنفعة شخصية أم عينية، فمثلاً إذا كانت دار تملكها شخص بالإرث، وكان مورثه قد أوصى قبل وفاته بسكن هذه الدار لشخص آخر معين لمدة عشر سنوات، فإن الوارث حينما يتملك هذه الدار إنما يتملك الرقبة فقط لأن منفعتها في المدة المذكورة يملكها الموصى له ما دام قبل الوصية بعد وفاة الموصي، وبالتالي فإنه ليس للوارث الحق في أن يتصرف في الدار تصرفاً ضاراً بمن له حق المنفعة أو ينقص من حقه ولن تكون ملكية الوارث للدار ملكية تامة إلا بعد انتهاء مدة المنتفع. وينطبق هذا المبدأ أيضا إذا كان سبب الانتفاع ناشئاً من الإجارة أو الإعارة أو الوقف.
ثانياً: ترتيباً على ما سبق نقول إن حكم ديوان المظالم بانفاذ عقد الإيجار المبرم بين أمانة محافظة جدة والمستثمر كان صحيحاً ويتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية الغراء، فالعين المؤجرة عندما انتقلت ملكيتها إلى المالك الجديد بسبب تطبيق المنحة عليها كانت مشغولة بحق انتفاع للمستأجر وبالتالي فقد انتقلت إلى المالك الجديد ملكية الرقبة فقط لأن منفعتها خلال مدة الإيجار يملكها المستثمر المستأجر، وبالتالي فإن وجه الغرابة لا يكون في حكم ديوان المظالم – كما جاء في الخبر- وإنما في تصرف أمانة محافظة جدة التي طبقت المنحة على عقار يدر عليها تأجيره عائداً مالياً، أي إنها بهذا التصرف حرمت الخزانة العامة من مورد مالي دون مقابل.
ثالثاً: لا شك أن تأييد المقام السامي لحكم ديوان المظالم الصادر لمصلحة المستثمر هو تعزيز لأحكام القضاء التي ينبغي تنفيذها متى أصبحت نهائية واكتسبت حجية الأمر المقضي به.
رابعاً: إن هذه القضية تدعوني إلى أن أسلط بعض الضوء على صلاحيات البلديات في التصرف في العقارات التابعة لها، فأقول ما يلي:
1- يقسم القانون الإداري المقارن أملاك الدولة إلى نوعين رئيسين، النوع الأول يسمى أموال الدولة العامة أو الدومين العام public Domain، وهذه الأموال تكون مخصصة لمنفعة عامة سواء برصدها لاستعمال الجمهور مباشرة ومثالها الطرق والشوارع والميادين العامة والحدائق العامة والشواطئ أو تكون مخصصة لخدمة مرفق مهم ومثالها المطارات والموانئ والمدارس والجامعات وغيرها من المباني الحكومية, والنوع الثاني هو الأموال الخاصة للدولة وغيرها من الأشخاص المعنوية العامة وتسمى ''الدومين'' الخاص Private Domain. ومثالها أسواق الخضراوات والمواد الغذائية والأراضي الفضاء غير المخصصة للنفع العام والعقارات المعدة للاستثمار عن طريق الإيجار. والمستقر عليه قانوناً أن الأموال العامة لا يجوز التصرف فيها بالبيع ولا يجوز الحجز عليها ولا يجوز تملكها بالتقادم أو بوضع اليد عليها. ويحدد القانون قواعد استعمال هذه الأموال العامة بحسب الغرض منها. أما أموال الدولة الخاصة فيجوز التصرف فيها وفق قواعد وأحكام مجردة تضمن سلامة هذه التصرفات.
2- آخذا بهذا التقسيم القانوني لأموال الدولة صدر نظام التصرف في العقارات البلدية بموجب المرسوم الملكي رقم 64 وتاريخ 15/11/1392م، فقررت المادة الأولى من هذا النظام أن ''الأموال العامة التابعة للبلديات غير قابلة للتصرف، ولكن يجوز في حدود ما تقره الأنظمة واللوائح التراخيص الانتفاع بها دون مقابل أو مقابل رسم، بصورة لا تتعارض مع الأغراض المخصصة لأجلها''. وقررت المادة الثانية أنه يجوز للبلديات في حدود هذا النظام ولوائحه، التصرف في الأموال الخاصة التابعة لها، بما يلي:
1- البيع أو المعاوضة.
2- الإيجار.
3- الترخيص بالانتفاع به دون مقابل أو مقابل رسم.
ثم وضعت المادة الثالثة تعريفاً للأموال العامة والأموال الخاصة للبلديات فقررت أنه ''يقصد في تطبيق الأحكام السابقة بالأموال العامة، الأموال المخصصة للمنفعة العامة بالفعل أو بالنظام، ويقصد بالأموال الخاصة ما عدا ذلك. ويعد من الأموال الخاصة مازالت عنه بالفعل أو بالنظام صفة التخصيص للمنفعة العامة من الأموال العامة''.
وحددت المادتان (4) و(5) من النظام كيفية التصرف في الأموال الخاصة للبلديات، حيث قررت المادة (4) أن (يتم التصرف وفق لائحة تصدر عن رئيس مجلس الوزراء، بناء على توصية وزير الداخلية ووزير المالية والاقتصاد الوطني).
وقررت المادة (5) أن (يتم التصرف بناء على قرار من المجلس البلدي، أما البلديات التي لا يوجد لها مجالس بلدية فيتم التصرف في الأموال الخاصة التابعة لها بناء على قرار من وزير الداخلية).
ولضمان سلامة التصرفات في الأموال الخاصة للبلديات قررت المادة (6) أنه ''لا يجوز أن يكون المتصرف له وزيراً أو وكيل وزارة، كما لا يجوز أن يكون موظفاً من موظفي المرتبة الثامنة فما فوق في الجهة الإدارية التي تتبعها البلدية، أو موظفاً أيا كانت مرتبته في البلدية التي تجري التصرف، أو عضواً في المجلس البلدي الذي يصدر عنه قرار التصرف، كما لا يجوز أن يكون المتصرف له أحد أقارب من ذكر من الوالدين والأولاد وأبناء الأولاد والأزواج والإخوة والأخوات أو وكيلاً معروفاً لأي منهم أو مستخدماً لهم. ولا يجوز بغير طريق الميراث أو الوصية أن ينقل حق المنصرف له إلى أي ممن ذكر طوال خمس السنوات التالية للتصرف''.
ومما تقدم يتضح أن الأموال العامة التابعة للبلديات لا يجوز التنازل عنها أو التصرف فيها بأي نوع من أنواع التصرفات الناقلة للملكية، ولكن يمكن الترخيص لأحد الأفراد باستعمال هذا المال استعمالاً خاصاً بموجب قرار أو عقد إداري يبرم طبقاً للقواعد القانونية المرعية في هذا الشأن. أما الأموال الخاصة التابعة للبلديات فإنه يجوز التصرف فيها بالبيع أو المعاوضة أو الإيجار، والترخيص بالانتفاع بها دون مقابل أو مقابل رسم، وترتيباً على ذلك فإنه لا يجوز التصرف في هذه الأموال تصرفاً ناقلاً للملكية بغير عوض كالهبة.
ولا شك إن جميع أمانات المحافظات والبلديات في المملكة ملزمة باحترام وتطبيق القواعد القانونية سالفة الذكر عند إجراء أي تصرف في أي عقار من العقارات التابعة لها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي