أحكام البطلان في نظام العمل
من نافلة القول إن عقد العمل كغيره من العقود الأخرى لا ينعقد صحيحاً إلا بتوافق إرادة الطرفين المتعاقدين أي اقتران الإيجاب بالقبول وأن يكون مبرماً من أشخاص ذوي أهلية معتبرة شرعاً ونظاماً وألا تكون إرادة الطرفين مشوبة بأي عيب من عيوب الرضا كالغلط والإكراه والتدليس.
ومن المستقر عليه في فقه قوانين العمل أن قواعد قانون العمل تتسم بالصفة الآمرة لأنها تهدف إلى حماية الطرف الضعيف في العلاقات العمالية وهو العامل، ولذلك فإنه لا يجوز مخالفة قواعد قانون العمل إلا إذا كانت هذه المخالفة تحقق فائدة أكبر مما قرره قانون العمل للعامل، ولذلك فقد نصت المادة الثامنة من نظام العمل والعمال السعودي الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/51 وتاريخ 23/8/1426هـ على ما يلي:
(يبطل كل شرط يخالف أحكام هذا النظام، ويبطل كل إبراء، أو مصالحة عن الحقوق الناشئة للعامل بموجب هذا النظام، أثناء سريان عقد العمل، ما لم يكن أكثر فائدة للعامل).
وترتيباً على هذا النص فإن أي شرط يرد في عقد العمل مخالفاً لأحكام نظام العمل يعد باطلاً بطلاناً مطلقاً ولا أثر له لأن أحكام نظام العمل تعد من أحكام النظام العام التي لا يجوز مخالفتها، فمثلاً لو تضمن عقد العمل شرطاً يقضي بعدم التزام صاحب العمل بدفع مكافأة نهاية الخدمة للعامل عند انتهاء العقد لأي سبب من الأسباب فإن هذا الشرط يعد باطلاً بطلاناً مطلقاً لمخالفته أحكام الفصل الرابع من نظام العمل التي تلزم صاحب العمل أن يدفع للعامل مكافأة عن مدة خدمته تحسب طبقاً لقواعد محددة، وأسوق مثالاً آخر وهو لو تضمن عقد العمل شرطاً يجيز لصاحب العمل تكليف العامل بأداء ساعات عمل إضافية دون مقابــــل مالــي، فإن هذا الشرط يعد باطلاً بطلاناً مطلقاً لمخالفته الفقرة (1) من المادة (107) من نظام العمل التي قررت أنه (يجب على صاحب العمل أن يدفع للعامل أجرا إضافيا عن ساعات العمل الإضافية يوازي أجر الساعة مضافاً إليه 50 في المائة من أجره الأساسي).
ولا يندرج ضمن هذا البطلان الشرط الذي يعطي العامل فائدة أفضل من تلك التي قررها نظام العمل فمثلاً إذا تضمن عقد العمل شرطاً يقضي بإعطاء العامل إجازة سنوية مدتها 45 يوماً، فإن هذا الشرط صحيح وملزم لأنه منح العامل إجازة سنوية تزيد عن المدة المحددة في الفقرة (1) من المادة (109) من نظام العمل التي نصت بأن (يستحق العامل عن كل عام إجازة سنوية لا تقل مدتها عن 21 يوماً، تزداد إلى مدة لا تقل عن 30 يوماً إذا أمضى العامل في خدمة صاحب العمل خمس سنوات متصلة ...).
وتجدر الإشارة هنا إلى أن البطلان يقتصر على الشرط المخالف لنظام العمل ولا يمتد أثره إلى الشروط الأخرى المنصوص عليها في عقد العمل، بعبارة أخرى (يبطل الشرط ويصح العقد) إلا أن بعض فقهاء القانون يرون أن العقد برمته يعد باطلاً إذا تبين أن المتعاقد ما كان ليتعاقد لولا وجود الشرط المقضي ببطلانه.
وتختص هيئات تسوية الخلافات العمالية بالفصل فيما إذا كان الشرط المخالف لأحكام نظام العمل والعمال أكثر فائدة للعامل فيصح أو أنه ليس كذلك فيبطل. وقد استقر القضاء العمالي المقارن على أن يتم تقدير الشرط الأكثر فائدة للعامل بمعيار موضوعي يراعي فيه ما يحقق أغراض وأهداف قانون العمل ومصلحة كل عامل في مثل ظروف العامل الذي يحتج بالشرط أو يحتج عليه به، فمثلاً الشرط الذي يتفق العامل فيه على تنازله عن إجازته السنوية مقابل زيادة في الأجر، لا يعد أكثر فائدة للعامل لأنه على حساب صحته ومدى قدرته على العمل.
ومن ناحية أخرى، فإنه لحماية العامل من جور وتعسف صاحب العمل فإن المادة الثامنة من نظام العمل لم تكتف بإبطال كل شرط يخالف أحكام النظام وإنما قررت إبطال كل إبراء أو مصالحة عن الحقوق الناشئة للعامل بموجب هذا النظام أثناء سريان عقد العمل ما لم يكن أكثر فائدة للعامل، ونستخلص من هذا النص ما يلي:
1- يقع باطلاً بطلاناً مطلقاً تنازل العامل عن أي حق من الحقوق التي كفلها نظام العمل سواء تم هذا التنازل بلا مقابل وهو الإبراء، أو تم بمقابل، وهو الصلح ما لم يكن هذا التنازل قد حقق فائدة أفضل للعامل مما قررته أحكام نظام العمل.
2- إن المادة المذكورة اشترطت لبطلان التنازل في حالتي الإبراء والصلح أن يكون قد تم أثناء سريان عقد العمل، وهذا يعني أنه لو تم تنازل العامل عن حقوقه بعد انتهاء عقد العمل فإن هذا التنازل يعد صحيحاً وملزماً وغير قابل للإبطال. وفي تقديري أنه كان من الأصوب أن يشمل البطلان حالة التنازل عن الحقوق بعد انتهاء عقد العمل لأن الخلاف بين صاحب العمل والعامل حول الحقوق ينشأ في أغلب الأحيان بعد انتهاء العقد وليس أثناء سريانه، وقد تدفع الظروف المالية التي يمر بها العامل بعد انتهاء العقد إلى الإذعان لمطالب وضغوط صاحب العمل فيضطر إلى التنازل عن بعض حقوقه للحصول فوراً على البعض الآخر لمواجهة ظروفه المالية والوفاء بتكاليف مستلزماته المعيشية حتى يجد عملاً آخر، ولذلك قرر قانون العمل المصري الجديد الصادر عام 2003م بأنه (تقع باطلة كل مصالحة تتضمن انتقاصاً أو إبراء من حقوق العامل الناشئة عن عقد العمل خلال مدة سريانه أو خلال ثلاثة أشهر من تاريخ انتهائه متى كانت تخالف أحكام هذا القانون).
وأتمنى أن يأخذ المشرع السعودي بهذا الاتجاه فيعدل نظام العمل على النحو الذي يكفل حماية العامل بعد انتهاء عقد العمل فيبطل كل صلح أو إبراء من الحقوق الناشئة عن عقد العمل سواء تم التنازل عن الحقوق خلال سريان العقد أو خلال سنة من تاريخ انتهائه إذا كان هذا التنازل يخالف أحكام نظام العمل.
والذي يجعلني أقترح أن تكون مدة حماية العامل في هذا الشأن سنة بعد انتهاء عقد العمل أن الفقرة (1) من المادة (222) من نظام جواز سماع الدعوى العمالية خلال هذه المدة، حيث لا تقبل الدعوى إذا رفعت بعد انقضاء هذه المدة حيث قررت بأنه (لا تقبل أمام الهيئات المنصوص عليها في هذا النظام أي دعــوى تتعلق بالمطالبة بحق من الحقوق المنصوص عليها في هذا النظام أو الناشئة عن عقد العمل بعد مضي 12 شهراً من تاريخ انتهاء علاقة العمل).
ومن شأن هذه المدة المقترحة أن تعطي العامل فرصة كافية خلال المدة المقررة لسماع الدعوى للمطالبة بإبطال أي تنازل عن حقوقه اضطر إلى تقديمه تحت أي إكراه مادي أو معنوي مارسه صاحب العمل.