إطلالة صريحة على موقف الشركات العائلية في الوقت الراهن
* لا مراء في أن الشركات العائلية لعبت ومازالت تلعب دورا اقتصاديا مهما عاد بالربح الوفير على أصحابها، وبالنفع الكبير على الاقتصاد الوطني. ومن هنا لا يمكن التغافل عن هذا الدور، كما لا يجوز التفريط في استمرار نجاح هذه الشركات، وعلى هذا أصبح الحرص على بقاء إنجازات هذه الشركات مزدوجا، من جانب أصحابها ومن قبل الدولة، هذا الحرص يتطلب حماية وتحصين الشركات العائلية من مخاطر عديدة أهمها غوائل نظام عالمي يغزو الكرة الأرضية تحت اسم العولمة، تهدد بأنه لا نصيب لمن يقف في وجهها أو من لا يمشي على هواها.
* إن هذه الشركات تتعرض لمخاطر كثيرة من بينها مخاطر ذاتية ناجمة من طبيعتها كشركات عائلية، لكن هذا الاعتبار لا يلبث أن يتآكل تدريجيا بالإرث وانتقال ملكية الشركة من المؤسس إلى ورثته ومنهم إلى من بعدهم فيتكاثر الورثة بتعاقب الأجيال، وتتفتت الأنصبة وتختلف وجهات النظر، ويكثر الجدل، وهنا قد تتوه الرؤى الاستراتيجية، ويتسلل حينئذ السوس ينخر في عظام الشركة.
* لقد تكشف لنا من واقع خبرة وقضايا مكتبنا عبر 40 عاما، أن السبب الرئيسي في تصدع وتفكك الشركات العائلية يكمن في الغيرة التي تدب بين الأبناء والصراع بينهم على المراكز القيادية في الشركة، تلك الغيرة التي يلعب العنصر النسائي أحيانا دورا في إزكاء نارها، ولا سيما إذا تعددت زوجات المؤسس أو نشبت الخلافات بين زوجات الأبناء، وجرت لديهن المقارنة بين ما يتمتع به هذا دون ذاك، كما لاحظنا أن هذا التنافس وهذا التصارع يتزايدان عندما يؤثر الأخوة الكبار أنفسهم وإعلاء مصالحهم على حساب إخوتهم الصغار أو أبناء إخوتهم، أو عدم إشراكهم فعليا في شؤون الشركة، وكذلك عندما يكون بعض الورثة نشيطا، والبعض الآخر نائما لا يستيقظ إلا عند توزيع الأرباح.
إن السبب فيما نسميه "فتنة الشركات العائلية" قد يعود إلى المؤسس الذي لم يزرع في بنيه (ملاك الغد) روح التواد في التعامل والعمل المشترك أو يعتمد عليهم وهو يعلم أنهم ليسوا على مستوى المسؤولية، فيقع ما أشرنا إليه من فرقة، وحينما يستحكم الخلاف، وتنتصر الأنا.. تتعثر الشركة.. ويلي ذلك توابع من خسارة تلو خسارة حتى يسدل الستار بتصفية اتفاقية أو جبرية.
* بجانب ما سبق، يحيق بالشركات العائلية مخاطر وافدة من النظام العالمي الذي أشرنا إليه والذي يكرس:
ـ سياسة الأسواق المفتوحة والعمل على إلغاء الحواجز.
ـ والخصخصة وما يترتب عليها من تقليص الإنفاق الحكومي، حيث تباع بعض المرافق لمستثمرين من القطاع الخاص يتولونها بأنفسهم فتشتد المنافسة بدخول فرسان جدد للساحة.
ـ وكذلك التكتلات الاقتصادية وتعاظم دور الشركات متعددة الجنسيات.
ومؤدى هذا النظام، أن البقاء والنجاح ينعقد من الناحية العملية للشركات الكبرى (من حيث قاعدة الشركاء والمال والنشاط).
* وهنا يطرح السؤال نفسه، ما موقف هذه الشركات أمام هذا الطوفان؟
الإجابة مؤسفة.. لكن ليس هذا مدعاة للبكاء والعويل أو لطم الخدود وشق الجيوب، ودعونا نأخذ الأمور دون تهوين أو تهويل.. إن تعثر بعض الشركات العائلية أو حتى تصفيتها لسبب أو لآخر لا يعني خراب مالطة، ولا مساس بالاقتصاد، لأن مثل هذه الشركات التي تتوقف ليست في حقيقتها إلا دكاكين تتعايش على عمولات الوكالات التي احتكرتها واستأثرت بها سنوات طويلة دون تفكير في أي تطوير، ومن ثم فإن نهايتها الطبيعية في ظل سياسة الأسواق المفتوحة هو الانتهاء، ولا عزاء لرجال الأعمال.
* لكن بالنسبة للشركات العائلية واسعة النشاط وبالذات الصناعية منها، فأمرها يختلف لكونها من الدعامات المهمة للاقتصاد، وهذه لا بأس من تحويلها إلى شركات مساهمة كي تصبح كيانات اقتصادية عالية المنافسة بما يمكنها من البقاء بنجاح وربحية.
* وإذا ما نظرنا للشركات العائلية في منطقة الخليج، نجد أن بعضا منها قد استجاب للتطوير إما بالاندماج وإما بالتحول إلى شركة مساهمة، لكن الكثير مازال ينتظر إما رفضا وإما ترددا، فليس بخاف على أحد أهمية الارتباط العاطفي والمعنوي بهذه الشركات، فهي تعتبر بالنسبة لأصحابها تاريخا عائليا صنعه الأجداد والآباء لينتقل للأبناء والأحفاد، لا أن يقدم للغير هكذا على طبق من الفضة مقابل مجرد مبالغ ثمن أسهم دون جهد بذلوه أو قلق عايشوه، ويزداد هذا التمسك لما تحققه هذه الشركات من وجاهة اجتماعية ومال وفير، ناهيكم عن تقدير المؤسس حال حياته أو تخليد ذكراه عند موته، باعتباره قيمة وقامة رفعت شأن العائلة.
* لكن ليكن معلوما لدى هؤلاء المترددين أن التجارة وما فيها من منافسة لا يحكمها سوى اعتبارات القدرة والمهارة والاحتراف، وليس حتميا أن تتوافر مثل هذه العناصر لدى أبناء التاجر المؤسس أو ورثته، فمن قال إن التاجر الشاطر أو "الفهلوي" لا ينجب إلا تجارا نابهين مثله، ومن قال إن الآخرين من غير التجار لا ينجبون إلا تجارا نابهين مثله، ومن قال إن الآخرين من غير التجار لا ينجبون رجال أعمال ناجحين؟ إن هذا يقتضي من المؤسسين ضرورة تدبر شؤون شركاتهم واختيار المحرك القادر على تحريكها وتشغيلها بالقوة المطلوبة في حياته وبعدها.
* ولعل أفضل طرق التطوير هو التحويل إلى شركات مساهمة، لأن هذا يمكن من توسيع قاعدة الشركاء بضم مستثمرين جدد، ومن زيادة التمويل، وتعدد الأنشطة، وتداول الأسهم في الأسواق المالية (البورصات)، وبالتالي يقل تعرض هذه الشركات إلى المخاطر، كل ذلك مع التركيز على إمكانية أصحاب الشركات العائلية الاحتفاظ بمواقع القيادة في الشركات الجديدة والسيطرة على إدارتها عن طريق تملك القدر اللازم لذلك من الأسهم، سواء بنسبة يحدد القانون حدها الأقصى كما فعلت بعض التشريعات، أو يترك تحديدها لأصحاب الشركات العائلية وهو ما نفضله، وهكذا يتحقق التوازن بين الإصلاح والانطلاق مع حفظ تاريخ الأسرة وتعزيز سيطرتها على الشركة.
* لكن في حالة إصرار بعض الشركات على أن تعيش في جلباب أبيها، فلا جبر ولا إكراه، فالكل حر في اختيار الشكل الذي يراه لشركته، ولا خوف على الشركات العائلية الصناعية الناجحة شريطة اتخاذ التدابير اللازمة لبقائها في مناخ المنافسة العالمية، ومن أهم هذه التدابير:
1) اتباع أساليب الإدارة الحديثة والفصل بين الملكية والإدارة، والاعتماد على الكوادر الفنية المهنية ولو من خارج العائلة عند المقتضى.
2) تحديث أدوات الإنتاج والعمل بالتخطيط الاستراتيجي لتقديم منتج ينافس كما ونوعا وسعرا في الأسواق المحلية والدولية.
3) الالتزام بنظام رقابي، ونظام محاسبي متطور مع توخي الشفافية والإفصاح.
4) المساهمة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية بعيدا عن الاحتكار وقصر الهدف على شحن الخزائن بالأرباح الضخمة على حساب المستهلك.
* أما بالنسبة للشركات العائلية الصغيرة أو المتعثرة والتي اختارت أو فرض عليها أن تكون "محلك سر" فمصيرها الزوال في الغالب، حيث لا طائل من وراء بقائها، وعلى أصحابها أن ينسحبوا من السوق في هدوء وكبرياء إما بالبيع وإما بالاندماج "بيدي لا بيد عمرو".
* * * * *
* ما سبق يؤكد ضرورة إصلاح الشركات العائلية في ظل المستجدات الدولية سواء بالتحويل أو الاندماج أو الإصلاح الذاتي، وهو ما يتطلب تعديلات جوهرية في القوانين التجارية تمكن أو تشجع على التطوير المنشود بتناغم بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة، على أن يتم ذلك بهدوء وحكمة بعيدا عن دق الطبول والنفخ في الأبواق.
* * * * *
تلكم هي إطلالة صريحة لرصد موقف الشركات العائلية، نابعة من اهتمام شخصي بمسيرة هذه الشركات تجارية كانت أو مهنية، وتحديدا منذ وجهت أبنائي الأربعة لدراسة القانون بنية تكوين شركة عائلية للمحاماة، حيث يعملون جميعا والله الحمد في المحاماة وفي مكتب واحد.
والله ولي التوفيق للجميع.