سِتْر .. واقع يشبه الواقع على وجه التقريب ( 3 – 3 )
هذا التوصيف الدقيق والتفصيلي لثمرة الخوخ، هو ما يحيل السرد إلى فعل شهوي حيث التبتل أمام "قطعة بطيخ خرافية" تغوص مريم في جوفه الأحمر " تقضم بأسنانها من اللحمة الجوانية وتلوك، في لحظة غاصت بكامل وجهها للحمرة الغنية بالعصارة، للحظات لا تريد أن تطلع " لتبادلها طفول نشوة الغوص في الجوف الناري المثلج، والتهام الطعام ببهائمة الكلاب والقطط والبقر " دعيني أجرب ... " ثم تشهق بالتذاذ يوازي أوار الفعل الجنسي " يا الله، لا أطيق هذه اللذة ". وكذلك في نشيد الطبيعة الخلاب كما تغنيه مريم لبساتين الطائف " عبق نفاذ يرقد في ريقك، لكل فاكهة عطر أستطيع تمييزه بالخدر على ذقني، أعرف بدخول الصيف من خدر الشفتين، وأسفل من زغب الخوخ يأتي الصيف، أشعر بعصارات الأسيد الصيفي على لساني وسقف حلقي ".
هكذا تماثل بشكل بنائي بين زغب الخوخ، وترقرق الزغب في مؤخر عنق مريم برذاذ المسك، وهو ما يعني أن التصريح بما تأكله الشخصيات والكيفية التي يتم بها إزدراد الطعام والتلويح به شكلا ومذاقا، يتجاوز الدلالة الحسية المباشرة إلى ما يمكن اعتباره استكمالا بنيويا للمعنى الذي تجس به الشخصيات الوجود، والخيال الذي تسبغه على متعلقات ذلك الوجود، بحيث تمنح هذه العناصر شكلا مختلفا، بالنظر إلى أن الشخصية صورة لغوية، أو هي طريقة كلامية وحركية بمعنى أدق، وهكذا يمكن التعاطي مع التقطيع السردي بتفاصيله الصغيرة، فهي محاولة لترقيق السرد، والتوغل إلى عمق الشخصيات، من خلال اشتهاءاتهم على اعتبار أن التفصيل، كما تتفنن فيه رجاء في إرجاء مراداته، استيهامي في المقام الأول، وموجب للذة بالضرورة، فكل عبارة يفترض أن تكون مرسلة ضمن هذا السياق التلميحي، كما يبدو ذلك في الإشارة إلى ارستقراطية اللمحة في جسد طفول الناحل، وهو ما يعني أن الذات الساردة مغرمة بالتحديق في التفاصيل وتنصيصها بعبارات أشبه بالأردية الشفافة التي تغطي الشخصيات.
ذلك ما يفسر واقعية الرواية وانحيازها عن الحكي في آن، أي في الإتيان بحبكة معاندة لفعل الحكي، فهي تسمي مقهى أوركيد في سوق حراء، ومقهى رانديفو، وتجادل بدر تفصيليا بشأن الملتقى الثقافي الأول، وخطة وزارة الثقافة والإعلام، للتقليل من خطر الإرهاب والهويات العمياء، لكنها تقوّض الحكاية بالرواية، وتنتصر لغنى الخيال على الوقائع، فيما يشبه التأسيس لرواية وهمية لا تتمثل فيها الوقائع كحقيقة قارة، بل كمدخل لحقيقة أخرى ممكنة، من خلال حركة حسية خالصة، هي الأصل، أو هكذا تنكتب بمستويين أحدهما معاش والآخر متخيل، وهنا يكمن التضاد الدرامي بين الفضاءات المجازية والواقعية، أي تجسيد كثافة المرجع الواقعي بشكل تجريدي داخل النص.
من ذات المنطلق يمكن النظر لحمولة النص الثقافية، وتأمل الصورة المرسومة بما هي شكل وبنية وعي، فثمة ذات تجول في بلاكويل، لتنشق رائحة الكتب، تتسكع في صالة " تيت " وتعلن انبهارها بعرض لفنان صيني بالديناميت، وتسترخي قبالة كتاب الفنان مونخ بكلماته. هذه الذات تستمد ذخيرتها المركبّة حسيا وثقافيا من أفلام سينمائية نوعية ذات صلة بالسرد، كالساعات الأخيرة لفرجينيا وولف، وسي بيسكيت، والساموراي الأخير، والذكاء الصناعي وهكذا تطبع بصمات حضورها في فضاءات باذخة، ذات ملمح حضاري، ربما لإدراك رجاء بأن التأمل النقدي للمجتمع يستلزم جرعات من التفكير، بذات القدر الذي يتطلب أيضا لمسة شعرية ومجازية.
كل ذلك الإسقاط الثقافي يسبر أحشاء الواقع بموازاة حضور حسي كثيف، لسرد حكاية امرأة مقهورة بالطلاق " لكأن الطلاق وحمة أو شجّة مكان الغرة " فهي امرأة مرغمة على تقديم التنازلات لتبقي على شيء من وجودها، لتخفف من حصار أخويها مروان وأنور اللذين ورثا كل شيء ليسمحا لها بالسفر، وهكذا تنسلخ حتى من اعتقاداتها الإنسانية، حيث تتنازل عن مبادئها بشأن التعدد الزوجي في محاولة لتزويج نفسها للمثقف الشاعر بدر، لكن القاضي ينهرها " الله يستر عليك لا تفتحي علينا بابا " فيما يبدو استكمالا لقيد ذكوري محكم وواسع النطاق، أشبه بالحتمية الاجتماعية القاهرة، لكن الرواية لا تسقط في الدعاوى الحقوقية، بل تمنح الشخصيات النسائية مساحة لتعيش ترنيمة الحياة انطلاقا من رؤية شعرية متعادلة ناحية الرجل يمكن اختصارها في واحدة من عبارات المناجاة الأنثوية تجاه الرجل " لا تخرجني منك، واصل قيامك فيّ "
هكذا تخفف رجاء عالم روايتها من ثقل الحمولة الاجتماعية ولا تفرغها تماما، فحرارة النص تكمن في إرادته الامتاعية وليس في السجال، وعلى ذلك تصف أحاسيس شخصياتها وقد تشيأت، في قالب روائي لتعويض الحياة بحياة تشبهها على وجه التقريب. وبموجب هذا التماس الحسي تطل الساردة على الماضي والواقع الذي خلقها لتدخل سترها ثم تحذف نفسها بنفسها، أو تمحو بعض حضورها، من خلال تلمس تناقضات الواقع وعلاقته بما وراء التمظهرات الثقافية، وذلك هو جسد الأنثى المنقوش بشكل مختلف على اللغة والنص، كما تفترضه الين شووالتر، من خلال كتابة غايتها إبراز الأنوثة بشقيها الخفي والصارخ، كما ألصقت عنوانها الأبرز على شفاه بطلتها " أنت طريقتك في الحب وليس من تحب ".