عبء الأراضي الفضاء

بمناسبة ندوة تطوير الأراضي الحكومية المخصصة للسكن التي نظمتها وزارة الشؤون البلدية والقروية خلال يومي السبت والأحد الماضيين، سأجعل مقالة هذا الأسبوع عن عبء ترك الأراضي غير مبنية لفترات طويلة. فمن الملاحظ لكل ذي بصيرة انتشار المساحات الشاسعة من الأراضي الفضاء أو البيضاء غير المستغلة داخل النسيج العمراني لغالبية المدن السعودية، وأكثر هذه الأراضي الفضاء مملوكة لأفراد حصلوا عليها إما عبر منحها لهم من قبل الدولة، وإما بشرائهم لها بغرض الاستثمار. والاستثمار في الأراضي من الظواهر التي استجدت على المجتمع، وقد ظهرت بوضوح بعد النهضة أو الطفرة الاقتصادية الأولى قبل أكثر من 30 عاماً، وتأصَّل مفهوم الاستثمار في الأراضي بعد ذلك مع برامج منح الأراضي التي شملت غالبية مدن المملكة وقراها؛ لتحمل المنح - إضافة إلى كونها رافداً لتمكين المواطنين من الحصول على المسكن- أسلوباً غير مباشر لتوزيع الثروة عليهم، فظهر نتيجة لذلك سوق نشط لبيع الأراضي وشرائها، ولا أدل على ذلك من عدد المكاتب العقارية التي انتشرت انتشار النار في الهشيم، فلم يخلُ منها شارع من الشوارع التجارية في جميع مدن المملكة وقراها، وكذلك لم تسلم أركان أراضي المخططات من خيامها وصنادقها وغرفها المتنقلة سابقة التصنيع.
وقبل تفشي ظاهرة المضاربة في سوق الأسهم كان الاستثمار في الأراضي وشرائها الملاذ شبه الوحيد - الواضح والآمن - لكل من يرغب في استثمار مدخراته وتنميتها بعيداً عن قنوات الاستثمار غير الشرعية أو عالية المخاطرة أو قليلة المردود، وحفظها من التآكل بفعل الزكاة، خصوصاً إذا لم تُتخذ الأرض عرضاً من عروض التجارة ــ وتأكد هذا المفهوم بعد انتكاست سوق الأسهم. فكانت الأراضي بالنسبة للكثير من المواطنين نموذجاً من نماذج حفظ الثروة وتنميتها بفعل تقادم السنين على الأرض ووصول التطوير ومرافق البنية التحتية إليها (المشتملة على: الماء والكهرباء والهاتف والصرف الصحي والزفلتة والرصف والإنارة والتشجير وخلافه)، دون أن يتحمل مالكها أي مصروفات مالية أو أعباء إدارية وتشغيلية. وظهرت نتيجة لذلك الكثير من التعبيرات الشعبية المشجعة على الاستثمار في شراء الأراضي (مثل: «الأرض لا تأكل ولا تشرب»، أو «الأرض تمرض ولا تموت») وغيرها من العبارات التي تمنح الكثير من المواطنين خاصة الموظفين الراحة والاطمئنان لشراء الأراضي وإبقائها فضاءً دون التفكير في تطويرها أو حتى بيعها ما لم تضطرهم الحاجة الماسة إلى ذلك. ومن المفارقات العجيبة أن الأراضي البيضاء أو الفضاء أصبحت سلعاً تجارية رائجة على الرغم من أن الاستثمار فيها يعد استثماراً غير إنتاجي وغير موظف لليد العاملة، بل على النقيض من ذلك كان بقاؤها بيضاء من غير تطوير يدفع بالتنمية إلى حدود أوسع، ويؤدي إلى ظهور مخططات جديدة لتغطية الطلب على الأراضي، ويعمل - من ثم - على فتح سوق جديدة للمضاربة في نسبة من أراضي المخططات الجديدة والاستثمار بشرائها وإبقائها بيضاء لسنوات طوال، ويستمر المسلسل، حتى أننا نجد أن نسبة الأراضي الفضاء المخططة والمحتوية على الخدمات في مدينة الرياض تقترب من نصف مساحة الأراضي المبنية.
وتشكل الأراضي البيضاء عبئاً على تنمية المدن، فبقاؤها دون تطوير يدفع بالمدينة إلى التوسع، ويجعل تطويرها وتوفير خدمات البنية التحتية ومرافقها فيها مكلفاً، وغير مستثمر بالشكل الأمثل، ويجعل رحلات التنقل بين أجزاء المدينة أكثر وأطول. كما يؤدي ارتفاع أسعار الأراضي الفضاء مع الوقت إلى التضخم في أسعار الأراضي والعقارات الأخرى، وإلى جعل توفير المساكن الميسرة من المستحيلات. ويلزم لتفادي هذه السلبيات استحداث حزمة من التنظيمات والإجراءات التي تعمل على الدفع بملاك الأراضي الفضاء الواقعة داخل النسيج العمراني للمدن إلى الإسراع بتطويرها أو بيعها لمن يقوم بتطويرها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي