كيف تصنع السعودية اقتصادا للأفلام ؟

صناعة السينما تهيئ مجالا مهما في دعم الجوانب الاقتصادية، وذلك بالنظر إلى خاصية الناتج الفردي لكل دولة، وهذا الرأي يتفق معه كثير من المهتمين بشؤون السينما، ويدعمهم في هذا التوجه محللون اقتصاديون، بيد أن السينما تحولت إلى صناعة حقيقية ذات مقومات اقتصادية لا يمكن الاستهانة بها، حيث أصبحت تؤدي دورا مهما في اقتصادات الدول التي تهتم بهذه الصناعة المتميزة بوصفها أحد مصادر التمويل أو أحد مصادر الدخل القومي فضلا عن كونها من ممكنات جودة الحياة.

السعودية منذ إطلاق رؤية 2030 وتأسيس وزارة مستقلة للثقافة، وهيئة تعنى بالأفلام، وضعت نصب عينيها تحويل هذه الصناعة فيها إلى قطاع منتج ومسهم في الناتج المحلي السعودي، وأحد مصادر تنويع الاقتصاد السعودي. ورغم أن هذه الصناعة قديمة إلى حد ما في العالم، تعود إلى نحو 100 عام من اليوم، فإنها في المنطقة والسعودية تحديدا تعد صناعة ناشئة.

ولتقريب مدى أهمية هذه الصناعة للقارئ سأستعين تأكيدا بمهد هذه الصناعة، وأعني بذلك الولايات المتحدة الأمريكية، وكيف أثرت في أكبر اقتصاد في العالم على مدى العقود العشرة الماضية، حيث تعد "هوليوود" وشركات الأفلام الأمريكية محركا رئيسا للاقتصاد الأمريكي بإيرادات تبلغ مليارات الدولارات وآلاف الشركات وملايين العاملين، وأصبحت شبكة صناعة الأفلام والـصناعات المصاحبة لها قوة بشرية تحقق إيرادات سنوية ضخمة، فضلا عن القيمة التي تمنح أمريكا قوة ناعمة تصدر الثقافة الأمريكية، إلى جانب عوائد تنظيم المهرجانات السينمائية وإنتاج الأفلام.

في منطقتنا -أعني منطقة الشرق الأوسط- شهدت هذه الصناعة نموا هائلا في مجالي الترفيه والإنتاج، لكنه تركز في دول محددة، وفي نطاق ضيق، حتى حدث اختراق سعودي كبير في الآونة الأخيرة، ونجحت خطط السعودية في تعزيز مكانة هذه الصناعة محليا، وبدأت تدريجيا في نقلها للعالمية، مصدرة مشهدا جديدا للعالم بوصفه مركزا غنيا بالمواهب الإبداعية والتعبير الثقافي عن طريق الأفلام والمسلسلات التلفزيونية الرائدة التي أنتجت أخيرا. ونجحت السعودية خاصةً في تعزيز مجال صناعة الأفلام لديها، حيث استطاعت بذلك اغتنام فرص النمو الاقتصادي، وتعزيز الشراكات، ودعم التعاون إقليميا وعالميا.

صناعة السينما في السعودية قطاع في تطور سريع مدعوم من هيئة الأفلام السعودية، حيث تشهد المملكة استثمارات كبيرة في الإنتاج وتطوير البنية التحتية من خلال استوديوهات في نيوم والعلا. وتسعى المملكة لتكون مركزا عالميا لصناعة الأفلام بحلول 2030، مستفيدةً من الدعم الحكومي المتزايد و«الحوافز الاستثمارية» و«المواقع التاريخية والطبيعية الفريدة». ورغم التقلبات في إيرادات شباك التذاكر، لا يزال قطاع السينما نشطا، ويبرز اهتماما متزايدا بالقصص المحلية، ولديه فرص نمو وتطور كبيرة.

كشفت السعودية أخيرا عن صندوقين منفصلين لدعم قطاع صناعة الأفلام بقيمة إجمالية تبلغ 180 مليون دولار، يهدفان إلى تعزيز مجال السينما المحلية وجذب أبرز الأسماء الدولية. وتأتي هذه الخطوة تأكيدا لالتزام السعودية بتعزيز قطاع السينما المحلية وترسيخ مكانتها في أسواق الترفيه العالمية. ومع هذا الضخ الكبير للأموال، يستعد قطاع السينما السعودي لتحقيق قفزة عملاقة ستعمل على جذب صنَّاع الأفلام وشركات الإنتاج وخبرائه من جميع أنحاء العالم.

وخلال السنوات الأخيرة، لم يَعُدْ الحديث عن السينما مجرد ترف ثقافي، بل أصبح جزءًا من إستراتيجية وطنية لتعزيز الاقتصاد وتنويع مصادر الدخل. التقرير السنوي الذي أصدرته هيئة الأفلام السعودية لعام 2024 أمس، ليس مجرد أرقام وإحصاءات فحسب، بل نافذة تطل على مستقبل صناعة سينمائية واعدة، تمزج بين الطموح الوطني والإمكانات العالمية.

لقد بيع أكثر من 17.5 مليون تذكرة سينمائية، ووسعت البنية التحتية لتشمل 64 موقعا و630 شاشة عرض، وهذا لا يظهر نمو القطاع فقط، بل حجم الطلب المتزايد على المحتوى المحلي. الأرقام وحدها لا تحكي القصة كاملة. ما يجعل المشهد مثيرا هو كيف تحولت هذه الأرقام إلى فرص اقتصادية حقيقية، من خلال دعم 64 مشروعا محليا، وتحفيز إنفاق ما يزيد على مليار ريال، وهذا يُظهر أن السينما السعودية بدأت تتحول إلى صناعة قائمة بذاتها، تولد فرص عمل، وتدعم الابتكار في الإنتاج والتوزيع.

الأثر لا يقتصر على الاقتصاد وحده، بل يمتد إلى الثقافة والمجتمع. مهرجانات مثل البحر الأحمر السينمائي الدولي، ومهرجان أفلام السعودية لم تعد مجرد فعاليات فقط، بل منصات للتواصل الثقافي، جعلت المملكة مركزا إقليميا يجذب المواهب والمستثمرين، إلى جانب مشاركة 75,600 زائر في هذه المهرجانات، كما أن نجاح منتدى الأفلام السعودي في توقيع اتفاقيات بقيمة 226 مليون ريال، يبرز ثقة متزايدة بالسوق المحلية، ويؤكد أن السينما يمكن أن تكون محركا للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في آن واحد.

الأمر اللافت أن السعودية لا تكتفي ببناء السينما التقليدية فحسب، بل تستثمر في البنية التحتية الذكية، من استوديوهات مزودة بمنطقة تصوير معزولة صوتيًا إلى برامج تدريبية تهيئ الجيل القادم من صناع الأفلام والمواهب الإبداعية لتوظيف الذكاء الاصطناعي. إنَّ هذا الدمج بين التكنولوجيا والموهبة المحلية يُظهر رؤية إستراتيجية، تهدف إلى تحويل الأفلام إلى قطاع اقتصادي مستدام، يعزز مكانة السعودية في السوق العالمية.

وختاما، فإن اقتصاد الأفلام في السعودية ليس مجرد صناعة ترفيهية فحسب، بل هو مشروع وطني متكامل، يجمع بين الثقافة، والابتكار، والاستثمار الاقتصادي. ومع استمرار الدعم الحكومي والمبادرات الوطنية، يبدو أن السينما السعودية ليست على الطريق الصحيح فقط، بل تسهم في صناعة مستقبلٍ جديدٍ، يُمكن أن يجعل السعودية قوةً إقليمية وعالمية في صناعة الأفلام، بينما يفتح المجال لشبابها للابتكار والإبداع وتحويل الأفكار إلى أعمال ملموسة تجذب العالم.

ولكن تبقى الحقيقة أن صناعة السينما السعودية تعتمد على "أداء شباك التذاكر السعودي" الذي يرصد تطورات قطاع الأفلام، ومن هنا تشير المؤشرات المستقبلية إلى استمرار نمو صناعتها في السعودية، مع التوسع المتوقع في الإنتاجات المحلية، وزيادة الاستثمارات في قطاع الترفيه. ويتوقع أن تعزز مكانتها لتصبح واحدةً من أهم أسواق السينما في الشرق الأوسط، مدفوعة برؤية 2030 التي تضع الثقافة والفنون ضمن أولوياتها الإستراتيجية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي