هل اقترب عصر محاكم الذكاء الاصطناعي؟
في ظل تزايد القضايا القانونية وتعقيدها وضغطها على الأنظمة القضائية، لم تعد الوسائل التقليدية كافية. وهنا تبرز ثورة تقنية تقودها أدوات الذكاء الاصطناعي، واعدةً برسم مشهد جديد للعدالة، مع مؤشرات أولية تبشر برفع كفاءة معالجة القضايا 50% وتقليص زمن صياغة الأحكام 40%، بما يحقق وفراً كبيراً في الموارد.
ما يحدث يمكن فهمه من خلال محورين مترابطين: الأول هو سلسلة القيمة القضائية، وهي تلك المراحل المتتابعة التي تمر بها الدعوى القضائية منذ لحظة تسجيلها وحتى تنفيذ الحكم، فالمحاكم هي مصنع العدالة التي تمر بإجراءات متسلسلة وزمنية في خط إنتاج قانوني تحكمه تشريعات دقيقة، والمحور الثاني هو درجة النضج التقني لتلك السلسلة.
ابتداءً من الرقمنة التي حوّلت المستندات من ورقية إلى رقمية، مرورًا بالأتمتة التي أتاحت تنفيذ العمليات دون تدخل بشري، ووصولًا إلى الذكاء الاصطناعي القادر على تحليل البيانات، ورصد الأنماط، والتنبؤ، بل والتعلّم الذاتي. تلك هي ملامح العدالة الرقمية التي غيّرت طريقة إدارة المحاكم، سواء على المستوى الإجرائي كتسريع التبليغات وتحديد الجلسات آلياً، أو على المستوى الموضوعي كدعم القاضي نفسه في تقييم الحيثيات القانونية.
تبرز تجارب الدول في مسار القضاء الرقمي بوضوح؛ فالصين رقمنت ملايين الأحكام لتشكّل قاعدة بيانات دعمت نماذج الذكاء الاصطناعي، بينما طورت السعودية والإمارات وألمانيا وسنغافورة أنظمة أتمتة لجدولة القضايا والإشعارات، ما قلل الأخطاء ورفع الكفاءة. أما مرحلة دعم القرار القضائي، فما زالت تجريبية رغم اقترابها من النضج في بعض الدول المتقدمة.
هذا السباق التقني لا يخلو من الجدل؛ فمحكمة هانغتشو الإلكترونية في الصين، التي توظف الذكاء الاصطناعي لتحليل الأدلة واقتراح الأحكام، أثارت إعجابًا بقدراتها، لكنها واجهت انتقادات تتعلق بتحيّز الخوارزميات، وغياب الشفافية، ومخاطر "الهلاوس الاصطناعية" التي قد تقود إلى استنتاجات خاطئة.
فضلًا عن التخوف من المساس باستقلال القضاء. ورغم وجود مبادئ دولية لتنظيم الذكاء الاصطناعي، فإن غياب اتفاق ملزم يجعل التشريعات الوطنية خط الدفاع الأول؛ فألمانيا مثلاً تحظر استخدامه في إصدار الأحكام، فيما أقرّت فرنسا عام 2019 قانونًا يجرّم التنبؤ بأحكام القضاة بعد أن بدأت بعض الشركات تحليل قراراتهم، في خطوة عكست القلق من تآكل استقلال القضاء.
رغم الجدل، أثبت الذكاء الاصطناعي فاعليته كمساعد موثوق لا كبديل للقاضي، عبر تقليص زمن الدراسة وتعزيز اتساق الأحكام ودعم الحياد. ففي محاكم الإنترنت بالصين تُراجع المذكرات وتُقيّم الأدلة وتُقترح الأحكام استنادًا إلى قواعد بيانات ضخمة، بينما تطور محكمة فرانكفورت بألمانيا مشروع "Frauke" لصياغة مسودات أدق عبر التعلم الآلي.
وفي الولايات المتحدة يُستخدم لتقدير خطورة الجناة وتحديد الكفالة، فيما تطور فنلندا مشروعًا مع جامعة هلسنكي يقدم توصيات منسجمة مع أسلوب كل قاضٍ استنادًا إلى قراراته السابقة.
تجمع التجارب على أن الذكاء الاصطناعي لا يصدر الأحكام، بل يقدم دعماً إجرائياً وفنياً غير مسبوق، من تسجيل القضايا وتحليل الأدلة إلى تحسين الصياغة وضمان انسجام الحكم مع منهج القاضي، ما رفع الكفاءة وخفض التكاليف وحقق اتساقًا تجاوز 60%.
وقد مكّنت بيئات تقنية متكاملة تضم قواعد بيانات متجددة وسجلات رقمية ونماذج معيارية هذا التحول. وفي التحكيم، وفّر الهامش الأوسع للمرونة مجالاً أعمق للتبني، إذ يستخدم مركزا لندن وسنغافورة أدوات ذكية لمراجعة الوثائق، فيما طوّر ICSID أنظمة لتحديد أنماط قرارات هيئات التحكيم.
كما تقدم منصات متخصصة ملخصات فورية وتحليلات مقارنة وتوصيات خوارزمية تربط نوع النزاع بخبرة المحكمين، بما يعزز الحياد ويختصر زمن الفصل.
تواجه السعودية، كسائر الأنظمة القضائية، تحدي نقص الكوادر المساندة للقضاة، ما يستهلك نحو 70% من وقتهم في مراجعة المذكرات وإعداد المسودات على حساب التحليل العميق وصياغة السوابق.
غير أن هذا التحدي يمكن تحويله إلى فرصة عبر توظيف الذكاء الاصطناعي مؤسسيًا. فبفضل بنيتها التقنية وتشريعات "سدايا" ومنصاتها الرقمية مثل "ناجز"، يمكن إنشاء مختبر قضائي لتطوير "مساعد قضائي ذكي" يتولى تحليل المذكرات والمستندات، وتوليد المسودات الأولية، واقتراح اتجاهات للتسبيب تستند إلى المبادئ القضائية والسوابق ذات الصلة.
مع تقديم أدوات تدقيق لغوي وصياغي، ما يُسهم في تعزيز كفاءة القاضي وعمق الأحكام. وعلى مدى أوسع، يمكن أن تشكّل هذه المبادرة نواة لمحاكم مدعومة بالذكاء الاصطناعي، لا تستبدل القاضي، بل تعزّز جودة وعدالة قراراته. كما تملك السعودية فرصة لقيادة الجهد الدولي في وضع إطار تنظيمي عالمي لاستخدام الذكاء الاصطناعي في تسوية المنازعات، ومشاركة تطبيقاتها المتقدمة ضمن مجتمع "سدايا" العالمي للذكاء الاصطناعي.
مستشار قانوني