قبل حدوث الضرر.. هل تصمد العلاقات الأوروبية - الأمريكية في معركة الرسوم الجمركية؟

قبل حدوث الضرر.. هل تصمد العلاقات الأوروبية - الأمريكية في معركة الرسوم الجمركية؟

كانت الحرب العالمية الثانية تضع أوزارها حين استقبلت غابات بريتون في ولاية نيوهامبشر الأمريكية ممثلي 44 دولة، هناك حيث اجتمعوا بين الأشجار العالية والأكواخ الخشبية التي سكنوها لمدة 21 يوم هي مدة الاجتماع، توصل الحاضرون إلى أن التعاون التجاري مع الولايات المتحدة الأمريكية هو المنقذ الوحيد نظرًا لما تتمتع به من موارد بجانب خسائرها القليلة جدًا مقارنة بالآخرين، ومقابل ذلك اشترطت واشنطن أن تحل عملتها المحلية "الدولار" مكان الذهب لتصبح الورقة الخضراء عملة عالمية وأساس لتقييم العملات الأخرى، ووافق الجميع سواء كان خاسرا أو منتصرا.

اعتبر هذا الاجتماع الذي حدث في يوليو 1944 وسمي باتفاقية "بريتون وودز" هو أساس التعاون الاقتصادي بين الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، وخلال نحو 8 عقود اتسع هذا التعاون كثيرًا وتشعب لدرجة أصبحت كل قارة تعتمد على الأخرى، ووفقًا لمكتب الممثل التجاري الأمريكي فقد بلغت قيمة التعاون بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة 975.9 مليار دولار في 2024 وبمتوسط يومي 5 مليارات دولار ما يعني أنه أكبر شراكة تجارية في العالم.

هل وصلت تلك الشراكة العملاقة والتاريخية إلى طريق مسدود؟ سؤال أصبح الأكثر تداولًا في أروقة المؤسسات المالية العالمية وعلى لسان الخبراء الاقتصاديين في الإعلام ودور الأبحاث، والسبب إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترمب فرض رسوم جمركية نسبتها 30% على الاتحاد الأوروبي بداية من أغسطس المقبل، إضافة إلى رسوم بلغت 50% على الصلب والألمونيوم و25% للسيارات وقطع غيارها، ورغم توقعات بعضهم بأن الرسوم سيتم تخفيضها لكن إشارات الساعات الماضية أوضحت ضعف تلك التوقعات.

بدورها استعدت أوروبا للرد على الخطوة الأمريكية، إذ يملك الاتحاد الأوروبي تطبيق حزمة من الرسوم الجمركية على سلع أمريكية بقيمة 21 مليون يورو يمكن تطبيقها في أول أغسطس أيضًا، بجانب تدابير عدة أخرى على صادرات أمريكية قد تصل قيمتها إلى 72 مليون يورو، ورغم أن فرنسا دعت إلى استخدام تدبير "مواجهة الإجراءات القسرية" وهي أداة لدى الاتحاد الأوروبي تسمح باتخاذ قرارات أكثر صعوبة مثل تقييد وصول الشركات الأميركية إلى أسواق الخدمات المالية والمناقصات الحكومية في الاتحاد الأوروبي، لكن دول كثيرة على رأسهم ألمانيا ترى أن الخطوة غير مناسبة الآن.

الأرقام تشير إلى مدى تعقد الوضع بالنسبة للاثنين، فالولايات المتحدة هي المستورد الأكبر للسلع الأوروبية والمورد الثاني للاتحاد بعد الصين، كما تجسد أوروبا بالنسبة لواشنطن سوقا ضخمة تضم 500 مليون مستهلك بينما تعد أمريكا بالنسبة للقارة العجوز هي السوق الأهم في العالم بجانب المساندة السياسية العالمية في كثير من القضايا.

الرئيس الأمريكي يرى الأمور من منظور مختلف، فالأرقام تشير إلى أن العجز التجاري بين بلاده ودول الاتحاد الأوروبي وصل إلى أكثر من 250 مليار دولار لصالح الأخير وهو ما يستوجب إعادة هيكلة العلاقة التجارية فيما بينهما، وإعادة الهيكلة ركن أساسي من برنامج دونالد الرئاسي ليس فقط مع أوروبا بل مع جميع الشركاء التجاريين وقد أعلن ذلك مرارًا وقت ترشحه.

توتر العلاقات التجارية بين أوروبا والولايات المتحدة ليس الحدث الأول من نوعه فالتاريخ يشير إلى كثير من الأزمات المشابهة التي وصلت إلى 7 منعطفات تاريخية خلال 8 عقود، أولها ما عرف بـ"حرب الدجاج" حين استغلت واشنطن في 1963 الظروف الأوروبية السيئة وقامت بتحديث صناعة الدواجن لديها، لدرجة أغرقت معها السوق الأوروبية بالدجاج الرخيص ما دفع دول مثل فرنسا وألمانيا إلى فرض رسوم جمركية لإعادة التوازن، وكذلك هناك "حملة الموز" عام 1993 التي بدأت بإنشاء بروكسل منظمة مشتركة لسوق الموز ما أشعر أمريكا بأن هناك محاباة أوروبية، فيما يعد نزاع "بوينج - إيرباص" هو الأطول إذ استمر 17 عاما من الاتهامات المتبادلة وادعت كل قارة أن القارة الأخرى تدعم أبطالها في مجال الطيران بشكل غير قانوني وقد انتهى هذا النزاع بحكم منظمة التجارة العالمية التي قضت لصالح الولايات المتحدة عام 2016.

رغم ذلك فكل أزمة أحدثت ارتباك عالمي ونتج عنها تداعيات اقتصادية في بعض المجالات، وفيما يتعلق بالأزمة الجارية تشير التقارير إلى أن صناعة السيارات ستكون أكثر القطاعات تضررًا وقد صدرت أوروبا سيارات إلى الولايات المتحدة بقيمة 60 مليار دولار في 2024، وكذلك صناعة الطائرات التي ستتأثر ببطئ عمليات الإمداد وسلاسل التوريد وفقًا لنيك كانينجهام محلل وكالة "بارتنرز" المتخصصة في صناعة الطائرات، ويضاف إلى القائمة قطاع الصلب البالغ قيمة صادراته من أوروبا إلى واشنطن 20 مليار دولار في نهاية العام الماضي، إضافة إلى المنتجات الكيميائية والصيدلانية.

التأثيرات المتوقعة أدت إلى تحرك في مسار آخر ينطبق عليه الحكمة العربية التي تقول "مصائب قوم عند قوم فوائد"، فسريعا ما بدأ الاتحاد الأوروبي في البحث عن بدائل وفق وكالة بلومبرغ وكانت البداية باتصالات مع دول مثل اليابان وكندا، كما أوضحت تيريزا ريبيرا مسئولة المنافسة في الاتحاد الأوروبي أنه من الضروري استكشاف تعاون أعمق مع منطقة المحيط الهادئ خاصة الهند، أما بريطانيا فيبدو أنها على موعد مع فرصة ذهبية بحسب أليكس ألتمان رئيس المكتب الألماني في شركة لوبوك فاين للاستشارات التجارية الذي أوضح أنه في حالة تطبيق الرسوم سيكون للمملكة دور كبير في أن تقدم حوافز كبيرة للاتحاد الأوروبي لنقل العمليات التصنيعية إليها، والسؤال الآن هل تتغير خريطة العالم الاقتصادية أم تثبت العلاقات الأوروبية الأمريكية كما جرت العادة أنها أقوى من كل الأزمات؟

الأكثر قراءة