دمشق وأنقرة وأمستردام .. كيف تستعيد العملات المحلية عافيتها بعد الانهيار؟
منذ مغادرة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب الرياض معلنا عن رفع العقوبات عن سورية، انحصرت النقاشات المحلية في مقاهي دمشق واللاذقية وحلب في أمرين رئيسين، أولهما الانفتاح التجاري على مناطق جديدة مثل أوروبا بعيدا عن الصين وإيران، والثاني تحسن الأوضاع المعيشية ورواتب الموظفين.
بيد أن المعضلة الاقتصادية تكمن في أن تقديرات الجامعة العربية تشير إلى أن دمشق تحتاج إلى 900 مليار دولار من أجل الإعمار وإعادة كل شيء كما كان في السابق.
بدأت الحكومة السورية في دراسة عدة مقترحات بشأن العملة المحلية التي تعد ركنا أساسيا في أي اقتصاد وعنوان مهم لأي بلد، وبات السؤال الأساسي كيف تستعيد الليرة السورية قيمتها بعد الانهيار الذي لاحقها خلال عقد ونصف.
على رأس تلك المقترحات برزت فكرة "ليرة سورية جديدة" من خلال حذف صفرين أو ثلاثة من العملة المحلية التي وصلت قيمتها مطلع العام الجاري إلى 15 ألف من الليرة السورية مقابل الدولار الواحد.
أما عن آلية حذف الأصفار فهي طريقة تم استخدامها خلال القرن الماضي، والمستهدف بها إعادة تقويم العملة لتحسين كفاءة استخدامها، إلى جانب أن تقليص الأصفار يحسن من صورتها ويعزز الثقة في الاقتصاد المحلي للبلاد، فضلا عن التأثير الإيجابي لدى المواطنين أنفسهم.
سياسة حذف الأصفار
"حذف الأصفار" يؤدي أيضًا إلى تبسيط المعاملات المصرفية ما ينعكس بدوره على النظام المالي وفاعليته، لكن هذا لا يعني أنها بلا آثار سلبية، ففي ظل التضخم المفرط وفقدان العملات الوطنية لمصداقيتها تحتاج تلك الآلية إلى خطوات أخرى لتؤتي ثمارها ولا تتحول إلى إجراء مؤقت لا أكثر.
هذا ما فطنت إليه دول كثيرة مثل هولندا التي واجهت أزمة طاحنة في ستينيات القرن الماضي اضطرت على إثرها إلى حذف أربعة أصفار من عملتها المحلية آنذاك "الخولده"، وطبقت سياسة نقدية صارمة مكنتها من استعادة مكانتها مرة أخرى في أوروبا.
كذلك فعلت تركيا عام 2005 بإزالة 6 أصفار من الليرة التركية التي وصلت إلى مليون ليرة مقابل الدولار الواحد، لكن بالتوازي مع الإصلاح النقدي استطاعت أنقرة إعادة الزمام إلى مساره الصحيح.
في المقابل، دول أخرى كالبرازيل لجأت إلى إزالة الأصفار 3 مرات خلال القرن الماضي، ورغم ذلك لم تنجح حتى الآن، أما المثال الأبرز في الفشل فكان من نصيب زيمبابوي التي أزالت الأصفار وقت أن تجاوز التضخم 1000%، لكن مع السياسات النقدية الخاطئة تضاعف التضخم وسقطت العملة المحلية.
وبحسب بيانات البنك الدولي، فإن هناك 171 دولة أقدمت على خطوة "حذف الأصفار" خلال القرن الماضي، وتفاوتوا في درجات النجاح والفشل.
الاحتياطات النقدية
إلى جانب سياسة حذف الأصفار، هناك عدة آليات أخرى تتحكم في قوة العملات المحلية للدول لعل أبرزها هو ما تملكه من احتياطات نقدية من الدولار الذي يعد ركن أساسي في الاقتصاد العالمي.
ووفقًا للبنك الدولي، فإن احتياطي سورية من الدولار بلغ 200 مليون دولار في ديسمبر الماضي، إضافة إلى مخزون من الذهب يصل إلى 25 طنا وهو ما يمكن ترجمته إلى أكثر من ملياري دولار وقت الحاجة.
كما يلعب الاستقرار السياسي دورًا كبيرًا في النهوض بأي عملة، لأن الاستقرار يعني ثقة مؤسسات التمويل الدولية والمستثمرين الأجانب وهو ما ينعكس بالإيجاب على عملة أي دولة.
بالطبع كل تلك الإجراءات لا تجدي إن لم يكن هناك نظام مالي صارم وسياسات نقدية صحيحة، وإلا تحوّل الأمر كله إلى مجرد مسكنات مؤقتة، ولعل أبرز ملامح الأنظمة الناجحة هو القضاء على السوق السوداء للعملة، وهذا يحدث من خلال توحيد سعر الصرف للعملات العالمية كالدولار واليورو والريال السعودي.
وذلك إضافة إلى خطط لترشيد النفقات الحكومية ورفع فوائد البنوك، ليقبل الناس عليها ويضعون أموالهم ما يمكن الدولة من الوفاء باحتياجاتها وتقليل فاتورة الاستيراد من الخارج.
يتبقى ركن أساسي في منظومة النهوض بأي عملة وهو قدرة البلاد على الاستفادة من مواردها جيدًا واستغلالها، بما يعود بالنفع على المواطنين، والمقصود بالموارد كل ما يمكن أن يمثل دخلًا ماديًا من الثروات الطبيعية كالنفط والغاز والقطاعات الأساسية كالطيران والسياحة والتعدين، بحسب تصنيف صندوق النقد الدولي، وهذا يلزمه أيضًا علاقات خارجية قوية مع المحيط الإقليمي والعالمي.
ولعل الركن الأخير هو ما عانت منه سورية منذ 2011 وحتى سقوط بشار الأسد، إذ خسرت دمشق معظم حلفائها تقريبًا ودخلت في خصومة مع كثيرين أدت إلى فرض العقوبات عليها ومنع الاستيراد منها وإيقاف رحلات الطيران منها وإليها وتقييد نظامها المالي العالمي.
لذا كان قرار رفع العقوبات الذي قادته السعودية بمثابة فتح الباب أمام سورية وعملتها للنهوض من جديد، لأنه يعني رفع الحظر على استيراد النفط والغاز الطبيعي منها واستئناف حركة الطيران وإنعاش القطاع السياحي لديها، كما يدل على تحسن في محيط علاقتها الإقليمية والخارجية.
وزاد من أهمية ذلك أن القرار بدأ من الولايات المتحدة التي تعد أكبر دولة في العالم وتبعها الاتحاد الأوروبي الذي أعلن هو الآخر رفع العقوبات الكاملة عن دمشق، وانعكس ذلك على الليرة السورية التي انتعشت فور تلك القرارات فوصلت إلى حد 11 ألف ليرة مقابل الدولار منتصف مايو الجاري، وسط توقعات بمزيد من التحسن الذي يخفف من معاناة الملايين هناك.