العقارات وحجر الزاوية

لا يقتصر تعثر سوق الإسكان على دولة بعينها. فهو يشمل كل الدول التي تعتمد التمويل العقاري التقليدي المعروف. والسبب أيضا معروف، ويعود أساسا إلى الارتفاع المتزايد للفائدة، التي تمثل بدورها حجر الزاوية في الحراك العقاري العام. فارتفاع تكاليف الاقتراض أدى إلى تراجع أداء السوق العقارية الضخمة في الولايات المتحدة.
ويبدو أن الاضطرابات في هذه السوق ستتواصل لفترة قد لا تكون قصيرة، مع إبقاء المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي "البنك المركزي" الباب مفتوحا لمواصلة رفع الفائدة إذا ما أدت الظروف إلى ذلك. وهذه الأخيرة "أي الظروف" ترتبط مباشرة بمستويات التضخم، التي وإن انخفضت بقوة في الفترة الماضية على الساحة الأمريكية، إلا أنها لا تزال خاضعة لإمكانية الارتفاع مجددا في الأشهر القليلة المقبلة.
ولأن الأمر كذلك، فقد تراجعت طلبات الرهن العقاري في الولايات المتحدة إلى أدنى مستوى لها في ثلاثة عقود تقريبا. وهذا مؤشر خطير في الوقت الذي لا توجد فيه أي مؤشرات على إمكانية انتهاء التعثر قبل عامين على الأقل. فطلبات الشراء هبطت، وإعادة التمويل التي تمثل محورا أساسيا في الحراك العقاري عموما تراجعت إلى مستويات كبيرة. لماذا؟ لأن الجهات المانحة للقروض باتت تخشى من تعثر المقترضين، خصوصا مع تراجع واضح في أسعار العقارات قيد الرهن. ففي شهر واحد انخفضت وتيرة إعادة التمويل 6.9 في المائة، في أضعف مستوى لها منذ 1995، وفق مؤشر جمعية المصرفيين للرهن العقاري. بينما المشكلة لا تنحصر فقط في السوق العقارية الإسكانية على الساحة الأمريكية، بل تمتد إلى العقارات التجارية.
ومشكلة هذا النوع من العقارات، أنها تتعرض لضربتين من جهتين مختلفتين في آن واحد معا. الأولى، الارتفاع الكبير في تكاليف الاقتراض، وهذا ينسحب على جميع العقارات بأنواعها، والثانية، أن الطلب على العقارات التجارية تراجع بصورة كبيرة من 2020، أي عام جائحة كورونا، التي فرضت معايير جديدة للعمل، بحيث تراجعت وتيرة أداء الأعمال من المكاتب، وساحات العمل التقليدية، لحساب العمل من المنزل. وهذا الأمر مشابه تماما لما يجري على مستوى العالم. ومع زيادة الضغوط الآتية من الفائدة المرتفعة، بات هذا القطاع بين فكي كماشة حقا. فحتى الأعمال غير المباشرة المرتبطة بالمكاتب والعقارات التجارية عموما، شهدت "ولا تزال" تراجعا كبيرا، بما في ذلك المحال التجارية والمطاعم وغيرها.
ويعتقد مختصون أن العقارات التجارية تنتظرها أوقات عصيبة في الأعوام المقبلة. وهذا ينطبق حتى على العقارات السكنية في كل الدول التي تعتمد سياسة الباب المفتوح لرفع الفائدة. ففي بريطانيا مثلا، ارتفعت معدلات أولئك الذين يعجزون عن تسديد أقساطهم الشهرية، في مقابل ذلك تحول هؤلاء إلى الإيجار. وبلغت معدلات الإيجار أيضا مستويات مرتفعة للغاية. وما يحدث على الساحة الأمريكية شبه متطابق. فالمصارف ومؤسسات الاقتراض التقليدية، تمر بمرحلة يمكن وصفها بفترة "عدم اليقين". لأنها باتت تخشى كل يوم من مغبة منح القروض غير الآمنة، أو تلك التي تحوم الشكوك حول إمكانية التزام أصحابها بالتسديد، خصوصا مع تزايد نسبة المتعثرين بالفعل في الأشهر القليلة الماضية.
ومن هنا، تظهر مخاطر الإقراض بقوة في ساحة سوق عقارية شهدت ازدهارا كبيرا في الأعوام الماضية، بسبب معدلات الفائدة المنخفضة، التي وصلت عند بعض البنوك المركزية "وليست التجارية" إلى حدود الصفر بالفعل. والمخاوف الأكبر تظهر الآن حول إمكانية أن تتعرض شركات كبيرة ومؤثرة في السوق العقارية للإفلاس، وهذا ما سيزيد من التعثر، وربما يصنع أزمة حقيقية كبرى في هذه السوق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي