تكاليف الاقتراض ومتاعب التضخم

لم تغب المخاوف الآتية من الارتفاع القياسي للديون السيادية في الدول المتقدمة عن الساحة أبدا، بل كانت دائما هاجسا في صلب السياسات التي يضعها المشرعون في هذا البلد أو ذاك. وفي الأعوام الماضية ضغطت هذه الديون بصورة كبيرة على الحراك الاقتصادي العام، وزادت الضغوط أكثر في أعقاب انفجار جائحة كورونا، التي أجبرت الحكومات في الاقتصادات المتقدمة على تنفيذ سلسلة من برامج الدعم مولت أغلبيتها بالطبع عبر الاقتراض، وطرح السندات، فضلا عن الآثار السلبية التي تركتها -ولا تزال- ومنها الموجة التضخمية، التي ضربت كثيرا من اقتصادات دول العالم.
والقلق حيال الديون السيادية في الدول المتقدمة، يزداد حدة مع اضطرار الحكومات إلى اتباع سياسة رفع الفائدة تدريجيا، من أجل السيطرة على مستويات التضخم. فقد ولدت تكاليف الاقتراض مزيدا من المصاعب، ورفعت من وتيرة طرح الأسئلة حول الديون السيادية بصورة عامة، خصوصا أنها وصلت في بعض الاقتصادات إلى نحو ضعف حجم الناتج المحلي الإجمالي فيها.
في النصف الأول من العام الجاري ارتفع الدين العالمي عشرة تريليونات دولار، بحيث بلغ إجمالي هذه الديون 307 تريليونات دولار. وبالطبع هذا المستوى غير مسبوق لا في التاريخ الحديث ولا القديم. وهذا الارتفاع لم يأت من تفاقم أزمات الديون السيادية في الدول الناشئة أو الفقيرة (وهي خطيرة بالفعل)، ولكن جاء من تزايد ديون الاقتصادات المتقدمة. ففي اليابان مثلا، بلغ حجم الدين نحو 263 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وفي بريطانيا قفز أخيرا إلى ما فوق 100 في المائة من الناتج المحلي، في حين سجل في الولايات المتحدة 120 في المائة من ناتجها الإجمالي. وكذلك الأمر في الاقتصادات الأوروبية الكبيرة، باستثناء ألمانيا التي سجلت ديونا في حدود 60 في المائة من ناتجها الإجمالي.
كل هذه الأرقام باتت تمثل قلقا متصاعدا بالنسبة إلى الموازنات العامة، والخوف الأكبر أن تكاليف الديون ارتفعت بصورة كبيرة، بحيث أصبحت مادة سياسية تتقاذفها الأحزاب المتنافسة فيما بينها. بالطبع لا مقارنة بين ديون الدول المتقدمة، وتلك التي توصف بالناشئة أو الفقيرة. فهذه الأخيرة معرضة فعلا لمصاعب جمة، بل هناك عدد منها لم يتمكن من السداد في العامين الماضيين، رغم التسهيلات التي حصلت عليها من جانب الجهات الدائنة. فديون الاقتصادات المتقدمة مضمونة بالطبع، ولكنها تزيد من الأعباء على كل الموازنات العامة. وهنا يجري الحديث بصورة متزايدة عن ضرورة وضع سياسات مالية جديدة أكثر مصداقية. بمعنى، أنه يجب على الحكومات في هذه الدول، أن تنفذ سلسلة من الإجراءات توقف وتيرة الديون، وترفع من العوائد العامة، بما في ذلك زيادة الضرائب، وفق الإجراءات التقليدية المعروفة في هذا النوع من الاقتصادات.
لكن حتى هذا الحل أو مشروع الحل يصعب التوصل إليه، لأن رفع الضرائب يتطلب وجود مستوى من النمو يسمح بذلك، فضلا عن أن أغلبية الأحزاب الحاكمة، لا تحبذ إبراز هذا الحل، خصوصا في مواسم الانتخابات. والنمو سواء أرادوا رفعه أو الوصول إلى مستوى يعد مقبولا، يرتبط بصورة أو بأخرى بمستويات تكاليف الاقتراض، التي بلغت مستويات مرتفعة للغاية. والبنك المركزي الأوروبي الذي كان حتى مع بدء موجة التضخم الحالية ضد الفائدة العالية، صار متمسكا برفعها وترك الباب مفتوحا لتعديلها للأعلى في الفترة المقبلة. لكن لا مناص من إبطاء موجة الاقتراض الحكومي في الدول المتقدمة، رغم كل المؤثرات السلبية التي تحيط بالساحة، بما في ذلك التوترات الجيوسياسية المتزايدة، التي زادت من مستوى التكاليف، سواء من خلال ارتفاع أسعار السلع والطاقة، أو من جهة الالتزامات العسكرية والاستراتيجية على هذا الصعيد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي