المراجعة الدورية لمتغيرات سوق العمل المحلية

بعض الدول، التي مرت بمرحلة عدم التوافق بين إمكاناتها المالية المتنامية وطموحاتها التنموية من ناحية, وما يوفره سوقها من العمالة الوطنية المؤهلة بقدر الحاجة مجالاً وعدداً ومستوى من ناحية ثانية, اتجهت إلى الاستعانة المؤقتة في تنفيذ برامج خططها التنموية بكفاءات من خارج حدودها, لتغطي بذلك ما كانت تواجهه من نقص كمي ونوعي في القوة البشرية التي تشكل إحدى الركائز الأساسية لجميع متطلبات الحياة.
تلك الاستعانة ضرورة فرضتها ظروف معينة, منها الحرص على عدم تأجيل برامج التنمية أو التباطؤ فيها. ومن المنطقي أن تَبدّل تلك الظروف يستدعي تدابير أخرى ملائمة، وتلك، ولا ريب عملية واعية راشدة، ولا غضاضة فيها أو حرج. فطالما أن الاستعانة بغير المواطنين قد دعا إليها شح القوى العاملة الوطنية المؤهلة، فإن توافر تلك العمالة الوطنية عدداً ونوعاً ومستوى يستدعي، بالضرورة، توطين الأعمال التي لم يكن ممكناً أداؤها بكفاءة بمواطنين في السابق. وانطلاقاً من ذلك يجب أن تكون هناك مراجعة دورية لمعطيات سوق العمل فما لم يكن متوافراً العام الماضي, لا بد أنه توافر كلاً أو جزءاً هذا العام كنتيجة حتمية للجهود الكبيرة المبذولة في مجالي التعليم بكل مراحله ومجالاته والتدريب بكل حقوله ومستوياته.
إن عملية توطين الوظائف العامة والخاصة مسألة اقتصادية ومسؤولية اجتماعية. وما يتخذ من تدابير في ذلك الصدد يهدف إلى إتاحة الفرصة لأبناء الوطن للإسهام في بناء وطنهم وتلبية متطلباته وسد حاجتهم المادية بعزة وكرامة من ناحية, وإتاحة فرصة مساوية للعمالة التي وفدت إلى البلاد وشاركت، مشكورة في تلبية متطلبات مرحلة معينة، للإسهام في خدمة أوطانها وتلبية احتياجاتها الخاصة من ناحية ثانية.
هذه العملية لا تتضمن، في أي من أهدافها أو أساليب تنفيذها إنكاراً للإسهامات الجيدة التي قدمها الوافدون في وقت الحاجة لبعضهم, وما يتم من إحلال المواطن أو المواطنة المؤهلين محل من تمت الاستعانة بهم من الوافدين يعد عملية طبيعية وحتمية طالما توافرت كفاءات محلية, لبعض الوافدين دور في إعدادهم للعمل. وليس بالضرورة أن إحلال المواطن محل الوافد سيكون له انعكاسات سلبية على من لم يعد للبلاد حاجة توجب الاستمرار في التعاقد معهم من الوافدين.
ولا شك أن المراجعة الدورية الجادة المتعمقة سترسم بشكل مستمر حقيقة وضع الطاقة البشرية الوطنية المهيأة للالتحاق بالعمل من حيث المجال والمستوى والعدد والرغبات الشخصية لطالبي وطالبات العمل من حيث جهة العمل (قطاع عام أو قطاع خاص, وفي أي من أجهزتها ومؤسساتها وشركاتها) والرغبة المكانية سواء على مستوى المناطق أو مستوى المدن والقرى في كل منطقة. هذه الثروة من المعلومات إذا تصدت لها جهة إحصائية مركزية فستكون ثروة متجددة تستمد منها الجامعات ومعاهد التدريب ما يكشف لها تفاصيل حاجة البلاد من الطاقة البشرية, الأمر الذي سيحقق مطلبين مهمين, إذا كان هناك تنسيق وتكامل بين الجهات المعنية بإعداد الكفاءات (جامعات, معاهد), هما:
1 ـ المطلب الأول ويتمثل في التعرف على حقيقة الحاجة القائمة والمتوقعة مجالاً وعدداً على المديين القريب والبعيد لترسم على أساسها التوجهات التعليمية والتدريبية, وفي هذا مكاسب غاية في الأهمية من أبرزها:
- مساعدة الجهات المعدة للكفاءات على تجنب الاعتماد على معطيات الماضي, أو على التصور المبني على احتمالات وتوقعات لا تستند إلى ما يدعم حقيقتها.
- الحد من الازدواج بين برامج الجامعات والمعاهد لما فيه من عدم توازن بين مخرجات التعليم والتدريب وحقيقة الاحتياج.
- الكشف عن مجالات ربما لم تحظ باهتمام مخططي برامج التعليم العالي والتدريب, وبالتالي بناء البرامج على تصور واقعي, وليس اجتهادا فرديا أو لمجرد محاكاة الغير.
2 ـ المطلب الثاني يتمثل في التعرف على كفاءة البرامج التعليمية والتدريبية مقارنة بحقيقة الحاجة الفعلية في ميدان العمل, ليتسنى مراجعة ما لدى الجامعات والمعاهد من برامج وتكييفها بما يتلاءم والحاجة الفعلية لدى القطاعين العام والأهلي.
والسؤال الذي يطرح نفسه ''على من يجب التصدي لهذه المهمة بكل مراحلها؟'' وفي ظني أن الإحصاءات العامة هي الأقرب والأكثر تخصصاً في هذا المجال. والإحصاءات العامة, عند تصديها لهذه المهمة الحساسة المتواصلة لن تستطيع أن تحقق الهدف المنشود, مهما بذلت من جهود, ما لم تعضد بشكل جاد ومستمر من قبل القطاعين العام والأهلي وفق معايير وجداول زمنية محددة يلتزم بها الجميع بجدية ومهنية من ناحية, وفتح أبواب التعاون بين جميع الجهات الحكومية المعنية وفق منهجية مقننة من ناحية ثانية. وبهذا ستبنى قاعدة بيانات موثوقة ومحدثة بشكل مستمر يمكن للمجلس الأعلى للتعليم وكذا مجالس إدارة الشركات والمؤسسات الخاصة وكذا مجالس إدارة الهيئات العامة للتدريب أن يعتمدوا عليها كمصدر لكل ما يتعلق بشؤون سوق العمل من معلومات.
وعلى صعيد آخر يمكن أن تمتد المراجعة إلى من هم على رأس العمل من المواطنين والمواطنات, خصوصاً لدى الشركات والمؤسسات الخاصة الكبيرة, ممن ترى جهات عملهم أنها ستستغي عنهم لموجبات لديها وليس لبلوغ سن التقاعد أو عدم الكفاءة لدى من سيستغنى عنه, الأمر الذي يتيح للجهات الحكومية والأهلية المختصة بشؤون التوظيف التعرف على الكفاءات من المواطنين والمواطنات المتاحة من ذوي الخبرة الذين ما زالوا في سن العطاء للعمل لدى شركات أو مؤسسات أخرى بحاجة لهم مما يغنيها والبلاد عن الطاقة البشرية المستوردة. وهذا لا ريب سيفتح باباً جديداً لتوطين القوة البشرية. ولتحقيق ذلك تُلزم الشركات والمؤسسات بإخطار الجهة الحكومية المختصة بما لديها من برامج الشيك الذهبي وما شابهه لتتمكن من اتخاذ الترتيبات اللازمة للاستفادة ممن سيستغنى عنهم في أعمالهم الحالية بما يتيح لهم فرص عمل لدى شركات ومؤسسات في حاجة إليهم, الشيء الذي سيسهم في ويساعد على الحد من الاستقدام.

1

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي