تغول عمالقة التكنولوجيا على منافسيها الصغار .. هل حان الوقت لوضع حد؟

تغول عمالقة التكنولوجيا على منافسيها الصغار .. هل حان الوقت لوضع حد؟

يعد الدور الذي تقوم به التكنولوجيا في تحديد المسار المستقبلي للبشرية، أحد المسلمات الأساسية التي يقر بها الجميع الآن.
وباتت تلعب دورا أكبر من أي دور لعبته في الماضي في حياة الناس، وكانت جائحة كورونا بتحدياتها المختلفة واحدة من اللحظات الحاسمة في مسار التكنولوجيا، إذ ألقى الوباء وسياسات الإغلاق التي طبقتها معظم إن لم يكن جميع دول العالم بمزيد من الضوء على أهمية التكنولوجيا في حياتنا المعاصرة، خاصة في شقها الاقتصادي.
المذهل في الأمر أن التكنولوجيا التي يعدها البعض العصب الرئيس للاقتصاد العالمي الآن، والبوابة الذهبية تجاه المستقبل يهيمن على صناعتها وتوجيهها عدد محدود من الشركات، وقد دفعت تلك الهيمنة المفرطة من قبل عمالقة شركات التكنولوجيا مثل أبل، جوجل، مايكروسوفت، ميتافيرس (فيسبوك سابقا)، علي بابا وأمازون وغيرها من الشركات الأقل شهرة، إلى تصاعد الأصوات المطالبة بمزيد من التدقيق الحكومي وبفرض قوانين جديدة وقواعد تنظيمية لمنع الشركات والمنصات المهيمنة على الانفراد بالأسواق، وثني شركات ووسائل التواصل الاجتماعي على الترويج للمحتوى الضار، مع المطالبة بتحديث قوانين مكافحة الاحتكار.
في المقابل، يؤكد كبار المسؤولين عن شركات التكنولوجيا دعمهم لتلك الجهود التنظيمية، لكنهم يشيرون إلى أن بعض من تلك التدابير والإجراءات ستنعكس سلبا على المستهلك، إذ سترفع التكلفة الإنتاجية، بل يمكن أن تضر بالقدرة التنافسية للشركات الكبرى وتحد من قدرتها الاستثمارية في مجالات جديدة، أبرزها الذكاء الاصطناعي على سبيل المثال.
تكشف لنا الأرقام بعضا من كل بما تتمتع به شركات التكنولوجيا العملاقة من قوة، فالرياح المعاكسة في 2022 والأشهر المنقضية من عامنا الجاري وقضية التضخم العالمي الذي يلقي بثقله على الاقتصاد الدولي، ومشكلات سلاسل التوريد وهياكل التكلفة المتضخمة، والاحتقان الجيو-سياسي المهيمن على الساحة الدولية الآن خاصة بين الولايات المتحدة وأوروبا من جانب والصين وروسيا الفيدرالية من جانب آخر، ترك بصمات سلبية على وادي السيليكون بعد عقدين من الازدهار، وبالعودة إلى ملامح القوى التي تتمتع بها شركات التكنولوجيا فإن بنك جي بي مورجان قدر تراجع القيمة السوقية لشركات التكنولوجيا الكبرى العام الماضي فقط بنحو 2.5 تريليون دولار، دون أن يؤدي هذا إلى إفلاس أي منها.
من جانبه، يرى الدكتور ستيفن جريج أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة كامبريدج والمتخصص في مجال الآثار الاقتصادية للتطور التكنولوجي، أن شركات التكنولوجيا الكبرى ستصارع هذا العام والأعوام المقبلة على جبهتين في آن واحد، الأولى تتعلق بالمتغيرات الاقتصادية الراهنة في الاقتصاد الدولي التي تقلص جزءا من القدرة المالية الضخمة التي تتمتع بها تلك الشركات، والجبهة الثانية متعلقة بالضغوط التي تمارسها مؤسسات المجتمع المدني وشركات التكنولوجيا الصغيرة لوضع مزيد من القوانيين التي تحد من القوى المفرطة لشركات التكنولوجيا العملاقة.
ولـ"الاقتصادية" يعلق قائلا "التضخم يضغط بشدة على معدلات الإنفاق الاستهلاكي على الخدمات والمنتجات التقنية، لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فشركات التكنولوجيا الكبيرة تتصارع أيضا مع أسواق العملات المتقلبة، فاغلب شركات التكنولوجيا الأمريكية تحديدا تقيم خدماتها ومنتجاتها بالدولار الأمريكي، ومع ارتفاع قيمة الدولار، فإن منتجاتها باتت أكثر تكلفة لعملائها الدوليين، كما أن الركود الاقتصادي أو المخاوف منه يدفع العملاء إلى مستويات تخزين أقل، وارتفاع فواتير الطاقة مثل تحديا آخر لتلك الشركات، فشركة مايكروسوفت تتوقع أن يتقلص هامشها التشغيلي بنحو 1 في المائة هذا العام نتيجة ارتفاع النفقات العامة، وكان من بينها 800 مليون دولار إضافية في فواتير الطاقة، كل هذا يوجد بيئة أكثر تحديا وحقل ألغام قد يصعب على الشركات التكنولوجية الكبرى تجاوزه دائما".
يضيف بعض الخبراء إلى تلك المجموعة من العوامل تزايد التنافس في مجال التوظيف التقني خلال العامين الماضيين، حيث زادت الشركات من الأجور والمزايا في محاولة لجذب المواهب والاحتفاظ بها، ما رفع من الفاتورة الكلية لتكاليف الإنتاج.
إلا أن مجموعة كبيرة من الخبراء والمشرعين المدافعين عن شركات التكنولوجيا يرون أن التحديات الاقتصادية المشار إليها أعلاه تحديات مؤقتة، وشركات التكنولوجيا العملاقة لديها من القدرات المالية والخبرات ما يمكنها من التغلب عليها، إنما التحدي الأكبر الذي تواجهه مجموعة الشركات الرائدة في المجال التقني من وجهة نظرهم يعود إلى الضغوط الراهنة التي تدفع إلى إعادة تنظيم القطاع بمقترحات من خارجه وليس عبر الاستعانة بقيادات الشركات الرائدة في مجال التقنيات.
البروفيسور لورانس إتكنسون أستاذ القانون التجاري في جامعة لندن يعلق لـ"الاقتصادية" قائلا "منطق التفكير السائد تجاه شركات التكنولوجيا الكبيرة منطق عدائي، ويتعامل معها بحسبانها كتلة واحدة، بينما نتحدث هنا عن عديد من الصناعات المختلفة، علينا التفريق بين شركات التواصل الاجتماعي وشركة مثل أمازون أو شركة جوجل أو إنتل أو أبل، فلا يوجد تقنية كبيرة واحدة، هناك مجموعة متنوعة من الصناعات الفرعية المختلفة"
ويستدرك قائلا "ما يحتاجه الاقتصاد الرقمي هو التنظيم، لكن في قضايا الخصوصية، ولا ينبغي التركيز أو استهداف الشركات الكبرى، فالقواعد الحالية تنصب على الشركات الكبيرة التي تمثل رأس الحربة في التقدم الإنساني في مجال التكنولوجيا، بينما يتم تجاهل شركات التكنولوجيا الصغيرة، لوائح الأمن السيبراني تركز على الشركات الكبيرة، وتتجاهل الصغيرة".
وجهة النظر الأخيرة تلقي الضوء على واحدة من التحديات الرئيسة التي يواجهها القطاع التكنولوجي عامة، ألا وهوي الصراع المحتدم بين الشركات الكبيرة أو العملاقة وشركات التكنولوجيا الصغيرة التي تتهمها بأنها تضع العراقيل امامها للحد من نموها والحيلولة دون انتقالها إلى مصاف الشركات الكبيرة.
وترى إيما فريدي الباحثة المتخصصة في مجال الاقتصاد الرقمي، أن النقاش لم يصل إلى إجابة مقنعة للجميع بشأن السؤال الجوهري لمدى عدالة المنافسة القائمة بين شركات التكنولوجيا الكبيرة والشركات الصغيرة، والسؤال باختصار، هل سيكون من المفيد أو الضار تفكيك شركات التقنية العملاقة؟
وتضيف لا شك أن تفكيك الشركات العملاقة يمنح مزيدا من الفرص للشركات الصغيرة، فعلى سبيل المثال تجيب جوجل على 92 في المائة من استفسارات البحث في العالم، ويبيع موقع علي بابا وأمازون تقريبا كل شيء مما يترك لأصحاب الأعمال الصغيرة مساحة سوقية ضئيلة أو معدومة، كما أن شركات التكنولوجيا العملاقة نتيجة لقدراتها المالية الهائلة تستطيع شراء منافسيها الصغار لحماية هيمنتها، واستحوذ جوجل على أكثر من 270 شركة منذ عام 2001 على مدار العقد الماضي، لكنها تعلق لـ"الاقتصادية" قائلة "هذا جزء من المشهد، المليارات التي تضخها شركات التقنية العملاقة لدعم الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، أدت إلى تحقيق تقدم مذهل في عديد من حقول التكنولوجيا، وتفكيك تلك الشركات يعني التضحية بالتقدم والابتكار، كما أن تجزئة السوق وأضرار ذلك يجب أن تؤخذ في الحسبان، فتفكيك الشركات الكبرى يبدو جذابا أحيانا، لكن إلى أي مدى يعد ذلك عمليا، فتقسيم عمالقة التواصل الاجتماعي إلى شبكات صغيرة يوجد وهم حرية الاختيار بالنسبة للمستهلك، لكن ربما يفضل المستخدمون أن يضعوا كل اتصالاتهم في مكان واحد، ما يوجد شبكة واحدة في نهاية المطاف، كما أن الادعاء بان المنافسة بين الشركات الصغيرة يخفض الأسعار ليس أكثر من أسطورة اقتصادية، فالشركات الكبرى تقدم كثيرا من الخدمات والأدوات المجانية للمستهلكين، بينما سيكون على المستهلك دفع ثمنها إذا تم تفتيت الشركات الكبيرة لمصلحة الشركات الصغيرة".
إلا أن تلك الفوائد إذا ما كانت صحيحة فإنها لا تعني ترك الحبل على الغارب لشركات التكنولوجية الضخمة للسيطرة بمفردها على الأسواق، إلى الحد الذي يصبح فيه تضخمه عبئا في حد ذاته على السوق والمستهلكين، لكن المشكلة تكمن في أنه رغم اعتقاد عديد من الخبراء بأن عمالقة التكنولوجيا أصبحوا أقوياء للغاية، لكنهم يختلفون حول أفضل السبل لتنظيم شركات التكنولوجيا دون خنق الابتكار ورفع أسعار الخدمات والمنتجات التكنولوجية.
يعتقد جاك جولد سميث أستاذ الاقتصاد والخبير في المسائل التنظيمية لمكافحة الاحتكار، أن شركات التقنية تتطلب نوعا مختلفا من قوانين الاحتكار، مشيرا إلى أن الاقتصاد الرقمي يتطلب قواعد مختلفة للحفاظ على المنافسة، فالشركات التكنولوجية من وجهة نظره أكثر صعوبة في الفهم والتنظيم من الصناعات التقليدية، ويشير أيضا إلى أن الاقتصاديين ورجال القانون يختلفون فيما يجب إصلاحه وكيف ومتى؟
ولكن لماذا يجب تنظيم الاقتصاد الرقمي بطريقة مختلفة؟ يجيب جاك جولد سميث على هذا السؤال لـ"الاقتصادية" قائلا "في شركات التكنولوجية نماذج الأعمال غريبة بعض الشيء ويصعب تقييم البيانات والأصول الرئيسة بالطرق المحاسبية التقليدية، كما أن عملية الدمج تعد وسيلة مهمة لتحفيز الابتكار لدى تلك الشركات، بينما يعدها البعض نوعا من الاحتكار".
ورغم ذلك يرى جاك جولد سميث أن وقف استحواذ شركات التكنولوجيا الكبيرة على الشركات الصغيرة الواعدة ربما يكون حجر الأساس في وقف تغول شركات التقنية العملاقة، لكنه في الوقت ذاته يدعو إلى عدم تطبيق سياسة استحواذ شديدة التقييد، لأننا في هذه الحالة سنخاطر بقتل الأوزة التي تبيض ذهبا على حد قوله، لأن عملية الاستحواذ أو الدمج جزء لا يتجزأ من دعم الابتكار الذي يعد ضروريا لتحقيق مزيد من التطور التكنولوجي الذي يعد بوابة الإنسانية إلى المستقبل.

سمات

الأكثر قراءة