تقارير و تحليلات

النظم التعليمية الواعدة ركيزة الثورة الصناعية الرابعة .. هل تحتاج سوق العمل لمهارات لينة؟

النظم التعليمية الواعدة ركيزة الثورة الصناعية الرابعة .. هل تحتاج سوق العمل لمهارات لينة؟

مع انطلاق قطار الثورة الصناعية الرابعة منذ أكثر من عقدين، شهد العالم تغيرات لعديد من المسلمات التي سادت خلال القرون الثلاثة الماضية.
في الثورات الصناعية الثلاث السابقة كانت الطاقة، سواء البخار أو الفحم أو الوقود الأحفوري أو الكهرباء عصب تلك الثورات وقاعدة الارتكاز الأولى فيها، أما منتجاتها من طائرات وسيارات ووسائل نقل حديثة فكانت بمنزلة درة التاج فيها.
اليوم وفي ظل الثورة الصناعية الرابعة، حيث النمو الاقتصادي يدعم من قبل الإنترنت والتجارة الإلكترونية والهواتف المحمولة والأتمتة والذكاء الاصطناعي، يبدو الأمر مختلفا بشكل ثوري وجذري عن الماضي، وبالطبع لا تزال الطاقة خاصة المتجددة منها تلعب دورا محوريا في المرحلة الجديدة من الحضارة البشرية، لكن قاعدة الارتكاز والنهوض والقدرة على الاندماج السريع في تلك الثورة تتغير.
بالطبع قام التعليم بدور مهم في الثورات الثلاث الماضية، لكن نوعية التعليم المطلوب للتعامل مع الثورة الصناعية الرابعة بأبعدها التكنولوجية المختلفة، يبدو هو أيضا في حاجة إلى ثورة مماثلة تتلاءم مع الاحتياجات المتنامية لأي دولة ترغب في الاندماج سريعا في مسار الثورة التكنولوجية الجديدة.
في الثورات الثلاث السابقة كان مقياس التقدم والتطور يقدر بأطنان الفولاذ المنتجة، وعدد السيارات التي تسير على الطرقات، وأعداد المنازل المشيدة سنويا، تلك المعايير لا تزال ولا شك مهمة في عالم اليوم، لكن أهميتها تراجعت في مقياس التقدم والارتقاء، حيث يقاس التقدم بعدد المنازل التي بها أجهزة كمبيوتر، ومدى سرعة شبكة الإنترنت وتوفرها، وعدد الهواتف المحمولة، مقارنة بعدد السكان، وبالطبع عدد الربوتات الصناعية المنتجة أو المستوردة.
في ظل هذا الواقع الجديد للنمو الاقتصادي، فإن "العمل المعرفي" بات الأهم والأكثر تأثيرا، والأهمية هنا لا تتعلق باستبدال العمال بآخرين كما كان الأمر يحدث في الثورات الصناعية الثلاث الماضية، وإنما ترتبط الأهمية بتعزيز قدرة العاملين ومهاراتهم في التعامل مع كميات كبيرة وهائلة من البيانات، ومنحهم إمكانية الوصول والاعتماد على أدوات التحليل الحديثة، في ظل الابتكارات المتسارعة التي تسهم في إيجاد وظائف جديدة ترتبط بعالم البيانات والمعلومات وسبل تشغيل التقنيات التكنولوجية الحديثة مثل الطائرات دون طيار على سبيل المثال.
في عالم اليوم يحتل قطاع التكنولوجيا المرتبة الأولى في التوظيف باعتباره أسرع القطاعات نموا وفي ذات الوقت لا يزال يوجد فيه الفجوة الأكبر بين العرض والطلب، والمتوقع أن تستمر كذلك في الأجل المنظور.
من جانبه، قال لـ"الاقتصادية” البروفيسور إل. إم .روبين أستاذ أنظمة التعليم في جامعة كامبريدج "في سياق الاضطراب الوظيفي العالمي، والطلب على مهارات جديدة لينة وغير تقليدية وزيادة الاستقطاب الاجتماعي والاقتصادي، تلعب أنظمة التعليم دورا حاسما في إعداد المواطنين والقوى العاملة للمستقبل، ومن ثم يجب أن تتكيف نماذج التعليم لتزويد المتعلمين بالمهارات اللازمة لإيجاد عالم أكثر شمولا وتماسكا وإنتاجية".
ويعد روبين أن مستقبل الاقتصاد والمجتمع الجديد يتطلب تحديد نماذج واعدة للتعليم الجيد قادر على استيعاب وقيادة الثورة الصناعية الرابعة، وهذا يتطلب من وجهة نظره تحفيز تغيير الأنظمة التعليمية من خلال حشد تحالف واسع ومبتكر من أصحاب المصلحة والالتفاف حول نماذج ومعايير تعليمية جديدة.
بدورها، ترى لورين كريس، الباحثة في المناهج التعليمة في كينجز كوليدج في حديثها لـ"الاقتصادية"، أن هناك عددا من الخصائص المهمة، التي يجب أن تتوفر في المحتوى التعليمي، ليكون قادرا على التفاعل الإيجابي مع الثورة الصناعية الرابعة خاصة في بعدها التقني.
وفي هذا تقدم الخصائص الخمس، التي تعدها ضرورية ليكون النظام التعليمي في الدولة قادرا على تهيئة الأرضية لإنتاج أجيال من الخريجين القادرين على الاندماج السلس في السياقات المختلفة للنظام الصناعي الحديث.
وذكرت "يجب أن يعمل النظام التعليمي على تضمين مهارات أولها المواطنة العالمية وهذا يتضمن المحتوى الذي يركز على بناء الوعي حول العالم الأوسع والاستدامة ولعب دور نشط في المجتمع العالمي، وثانيا مهارات الابتكار والإبداع وتشمل المحتوى الذي يعزز المهارات المطلوبة للابتكار، ويتضمن ذلك التحليل والإبداع وهذا شرط ضروري للقدرة على التعامل مع التقنيات الحديثة".
وأضافت أن "ثالث هذه المهارات، هي المهارات التقنية وتشمل المحتوى الذي يقوم على تطوير المهارات الرقمية التي باتت عماد التقنيات الحديثة، ورابعا مهارات التعامل مع الآخرين، وذلك نظرا لطبيعة الأنماط الحديثة من العمل الجماعي، خامسا التعلم المخصص والذاتي، حيث الانتقال من نظام يتم فيه توحيد التعليم إلى نظام يعتمد على الاحتياجات الفردية المتنوعة لكل متعلم".
مع هذا يرى عدد كبير من الخبراء في المجال الاقتصادي والتعليمي، أن الاقتصاد الجديد ليس فقط في حاجة إلى خبراء تقنية أو مهندسين أو محللي بيانات، وإنما ما ينقصه أيضا الميكانيكيون والحدادون والنجارون وصغار المقاولين والفنون الذين سيبنون منشآت التصنيع الجديدة، وتلك الأعمال تحتل أهمية لا تقل عن أهمية زيادة عدد خريجي الجامعات في المجالات المتعلقة بالتقنيات المتقدمة والحديثة.
وهنا أوضح لـ"الاقتصادية" الدكتور هيدسون هانتر، أستاذ الاقتصاد الكلي في جامعة ليدز، "لا يتطلب الاقتصاد الجديد خبرات تكنولوجية عالية رفيعة المستوى فقط، بل يتطلب أيضا قدرا كبيرا من البنية التحتية وهذا يتطلب عديدا من المهن التقليدية التي يجب الحفاظ عليها، لكن الأمر لن يتوقف على الحفاظ عليها وإنما تطويرها أيضا وهو ما بات أمرا ضروريا".
وأشار إلى أن "البنية التحتية الجديدة التي تلائم الثورة الصناعية الرابعة تميل في أحيان كثيرة إلى أن تكون غير مرئية في حياتنا اليومية، فعل سبيل المثال الثورة الصناعية الرابعة نجاحها مرتبط بالقدرة على مد آلاف من الأميال من كبلات الألياف الضوئية والآلاف من الأبراج الخلوية، وهذا يعني الحاجة إلى عديد من المهن التقليدية في قطاع التشييد والبناء، ولكن شريطة أن تكون مزودة بقدرات فنية حديثة قادرة على التعامل مع الاحتياجات التقنية الجديدة".
ويعتقد بعض الخبراء في مجال الاقتصاد الاجتماعي أن جوهر عمل الثورة الصناعية الرابعة يكمن فيما يطلقون عليه "ثورة المهارات" وأن هناك سباقا شرسا لجعل المهارات البشرية قادرة على التعامل مع التقنيات سريعة التطور، هذا سيؤدي حتما إلى اختفاء مجموعة واسعة من الأعمال ذات المهارات المحدودة، واستبدالها بمجموعة أخرى من الأعمال التي تتطلب قدرة أكبر من المهارات التكنولوجية.
ومن ثم، فإن نظام التعليم من وجهة نظرهم يجب أن يعمل على مسارين، الأول يقوم بعملية تأهيل الطبقة العاملة الحالية من خلال دورات تدريبية مكثفة على التعامل مع الاحتياجات التقنية في حياتنا اليومية، في حين المسار الثاني وهو مسار أكثر تركيزا على المستقبل، وذلك عبر إيجاد قطاعات مؤهلة تعليميا بدرجة أعلى للتعامل مع التغيرات الجذرية، التي سيشهدها الاقتصاد العالمي من الآن حتى النصف الثاني من القرن الحالي.
في هذا الإطار، يرى بعض الباحثين أن القدرة على التكيف واحدة من المهارات الضرورية لضمان النجاح وستزداد أهميتها كلما زاد توغل الاقتصاد العالمي في الثورة الصناعية الرابعة، إلا أن تلك المهارة تتطلب الآن دمجها مع مجموعة من المهارات اللينة المهمة التي زادت أهمية في الأعوام القليلة الماضية مثل مهارات التواصل الاجتماعي والابتكار والتفكير النقدي وإدارة العلاقات والتنسيق وجميعها مهارات ضرورية للفرد لإيجاد مكانة مميزة له في مصفوفة العمل الوطني أو العالمي.
بدوره، ذكر لـ"الاقتصادية" كريس سبستيان الباحث في اقتصادات العمل والاستشاري في منظمة العمل الدولية، أن "التجربة التاريخية تشير إلى أن كل تحول تكنولوجي يؤدي إلى مزيد من التوظيف ومستويات معيشية أعلى ونمو اقتصادي، ولكن عديدا من الدراسات الحديثة خلصت أنه لضمان ذلك يجب أن يكون اقتصاد المعرفة الناشئ عالميا مصحوبا بتوسيع الفرص التعليمية للجميع".
ويستدرك قائلا "هناك ثلاثة سيناريوهات متعلقة بالعلاقة بين الاقتصاد المعرفي والمستويات التعليمية، السيناريو الأول ستظهر فيه وظائف ومهن جديدة لتحل محل أي وظائف تم حذفها نتيجة التكنولوجيا الجديدة، والاستثمار في المهارات المطلوبة لمواجهة هذه التحديات هو المصدر الرئيس للفرص الفردية والحراك الاجتماعي والرفاهية الاقتصادية، وهذا مهم بشكل خاص للعمال الذين ليس لديهم شهادة جامعية لمدة أربعة أعوام، والذين سيتحملون عبء الأتمته بشكل غير متناسب".
وأضاف "من المرجح أن تكون أماكن التعليم والتدريب بعد المرحلة الثانوية مثل برامج التدريب الخاصة بالصناعة، أكثر صلة بالموضوع ويمكن الوصول إليها لهؤلاء العمال، وباختصار سيكون الناس في حاجة دائمة إلى التكيف باستمرار وتعلم مهارات وأساليب جديدة ضمن مجموعة متنوعة من السياقات".
وأشار إلى أنه غالبا ما يطلق الخبراء على السيناريو السابق سيناريو ندرة العمالة، أما السيناريو الثاني فيعرف بندرة الوظائف، حيث يخشى بعض كبار المفكرين الاقتصاديين من أن حقبة جديدة من الأتمتة قد تعزز مهارات نسبة صغيرة من القوة العاملة، وهنا سنجد عدم تطابق بين زيادة المعروض من العمال المتعلمين والمهرة وندرة فرص العمل عالية الجودة.
أما السيناريو الأخير فيعرف بـ "نهاية العمل"، إذ تنتج البطالة من اكتشافنا لوسائل تساعدنا على الاقتصاد في استخدام العمالة بوتيرة تتجاوز إمكانية إيجاد فرص عمل جديدة، وفي هذا السيناريو سنكتشف أن هناك خللا عميقا في نظام التعليم والتدريب، وسيكون من الضروري إعادة تغيير النظام التعليمي لمساعدة الناس على اكتساب المهارات اللازمة لعيش الحياة بشكل مرض.
على أي حال وأيا كان السيناريو الذي سيسلكه الاقتصاد العالمي في ثورته الصناعية الرابعة، فإن إصلاح النظام التعليمي وتركيز أكبر على الاستثمار فيه، يعد المدخل الحقيقي للنهوض الاقتصادي وتعزيز القدرة على الإلحاق سريعا بقطار الثورة التكنولوجية الذي انطلق بالفعل.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من تقارير و تحليلات