قطار العمر لا يعود إلى الخلف
اختلاف الأفكار بين الآباء والأبناء أمر بديهي، كما أن التعاطي مع أمور الحياة بشكل مغاير بين الجيلين هو أيضا أمر بديهي، لكن من غير البديهي أن يطالب الأبناء آباءهم بأن يسايروا العالم المتغير بسرعة الضوء مع غض النظر عن تغيرات المرحلة العمرية التي وصل إليها هؤلاء الآباء. اشتكت لي إحدى الأمهات بأن بناتها يطالبنها بالخروج معهن إلى الكافيهات والمطاعم والمولات ويصررن على ذلك بحجة أنهن يرتحن لوجودها، ورغم رفضها وإبداء رغبتها في الجلوس في المنزل، لكنهن يرغمنها بدافع الحب فتضغط على نفسها من أجلهن، لكنها داخليا لا تشعر بالارتياح وسط الضجيج والأصوات العالية والجهد المبذول في المشي، ما يتسبب لها بأوجاع قدميها في الليل.
وأذكر أخرى كانت تقول بعد زواج جميع أبنائي توفي زوجي، ما جعلهم يحملون هم بقائي وحيدة أنا والخادمة في المنزل، فبدأوا بالإلحاح علي أن أتنقل بين بيوتهم من باب البر والرحمة، فأخبرتهم أنني ممتنة لكل الحب والاهتمام الذي يقدمونه لي، لكني لا أرغب في ترك منزلي الذي قضيت جميع أعوام العمر بين جدرانه بذكرياتها الحلوة والمرة، لأعيش وسط ضجيج الأحفاد وصخب حياتهم، كما أني لا أستطيع الابتعاد عن جاراتي الطيبات وزياراتنا اليومية وطلبت منهم أن يتركوني على راحتي.
مهما كانت نيات الأبناء طيبة نحو آبائهم وأمهاتهم وحرصهم الشديد عليهم لكنها ليست مبررا للضغط عليهم في أمور ربما تشعرهم بالضيق وعدم الارتياح، كلنا سيأتي علينا يوم ونكبر ونصل إلى ذلك العمر الذي نشعر فيه أن حركتنا أصبحت بطيئة واهتماماتنا قد تغيرت، فما كان يستهوينا بالأمس من الصخب والحفلات والمولات والكافيهات والمطاعم وغيرها تلاشى، ليحل محله رغبتنا في الهدوء و"البيتوتية" والاستمتاع بالطبيعة والميل نحو التأمل، سنكبر ونصل إلى ذلك العمر الذي نشعر فيه أن بيوتنا هي عديلة الروح وملجأ النفس ورمز الأمان وابتعادنا عنها هو الغربة الحقيقية حتى لو كنا مكرمين في بيوت الأبناء، سنكبر ونصل إلى ذاك العمر الذي لن تشكل فيه المظاهر الحديثة والماركات الأصلية أي إغراء لنا مقابل الثرثرة مع رفاق العمر ومشاركتهم تلك الذكريات العتيقة والاستمتاع بكشتة برية أو زيارة سوق قديمة، سنكبر وسيتغير كثير من أولوياتنا ورغباتنا وعاداتنا وسندرك أن هذا هو العمر ومراحله وعلينا أن نخضع إلى قوانينه.
وخزة:
"لا تجبروا أمهاتكم وآباءكم على النظر إلى العالم من خلالكم، فما يستهويكم لم يعد ذا أهمية في أعينهم، قطار العمر لا يعود إلى الخلف ولا يقبل الدوران، فدعوهم يعيشوا تلك المرحلة بكثير من الاحترام والهدوء.. وقمة احترامهم أن (تخلوهم على راحتهم)"!