Author

التقنية الحيوية وريادة الأعمال

|

من المثير النظر إلى تحديات ريادة الأعمال من زاوية قطاع محدد ومتجدد مثل التقنية الحيوية، ومن المثير أكثر النظر إلى تحديات الاستفادة الإنسانية من التقنية الحيوية من زاوية ريادة الأعمال. ومن ينظر إلى هذا الموضوع يجده يمسنا على أكثر من صعيد. الفرص الضائعة التي تواجهها الدول كثيرة ومن أهمها القدرة على استغلال ما يحدث في الجامعات لتفعيل الابتكار القابل للتحول إلى أعمال تجارية مستدامة وقيمة حقيقية يستفيد منها المجتمع. إرهاصات التقاطعات بين عالم الأعمال وأي ممارسة ابتكارية علمية متعددة وعالمية، ستجد المختصين في جميع دول العالم المتقدمة والمتأخرة يتحدثون عن هذه التحديات بشكل مستمر.
تلخيصا لسرد تاريخي ذكر في إحدى مقالات مجلة "نيتشر" العالمية حول تحديات الاستفادة التجارية من علوم الحياة إجمالا، يذكر أن إحدى أهم نقاط التحول هو ما حدث في الثمانينيات الميلادية من تطوير تنظيمي في الولايات المتحدة "بي ـ دول أكت" وفي المملكة المتحدة "قانون ثاتشر لمحاربة احتكار الاختراعات العملية"، إذ سمحت هذه التشريعات بتفعيل ما يعرف بممارسات نقل التقنية ووسعت الممارسات الخاصة بالملكية الفكرية من الشخص إلى المنظمة، ما سمح بتقليل حبس الابتكارات في الأدراج وتحفيز الاستثمار والترخيص لإعادة الاستخدام، الأمر الذي سمح بانتعاش منصات التقنية الحيوية والابتكار الصناعي في أماكن مثل سان فرانسيسكو وهارفارد. وسرعان ما تبع ذلك كثير من الدول الغربية الأخرى واليابان وعدد غير قليل من الدول النامية، بنتائج متفاوتة من النجاح.
وتطبيق هذا الأمر ليستفيد المبتكر من ابتكاره، والمستثمر من استثماره، والمجتمع والإنسانية بهذا التقدم الفكري ليس بالأمر السهل. حتى في وجود التشريعات المناسبة لعملية الترخيص وإعادة الترخيص وتوزيع الحقوق الناتجة عن العملية الابتكارية بين المؤسسة والفرد وإدارتها، تواجه الجامعات قائمة طويلة من التحديات المتعلقة بهذه الثقافة الخاصة، التي تقوم أساسا على الفكر التجاري ومهارات ممارسة الأعمال، إضافة إلى إدارة الأنظمة والتشريعات، والمعرفة الخاصة باحتمالات النجاح التجاري ومعامل الانتقال من الفكرة إلى الابتكار، ومن الابتكار إلى المنتج الناجح. وهذا يتطلب توعية قانونية ومالية مستمرة لأفراد أذكياء منشغلين في الأساس بعلومهم المختصة وتطبيقاتهم البحثية. نتيجة الأمر في حالة النجاح تنعكس في قدرة المؤسسة الابتكارية على إدارة الامتياز وإيراداته، ومشاركة الباحثين في ذلك.
عندما ننظر إلى فرص تطبيق هذا التقدم الإنساني في تنظيم تسويق وبيع الابتكار العلمي في الدول النامية سنواجه قائمة أخرى من التحديات. ترتبط هذه التحديات عادة بضعف شديد في أحد أركان المثلث الشهير "المؤسسة الأكاديمية ـ القطاع الخاص ـ الحكومة" أو ضعف في أكثر من ركن. لهذا، يشيرون دائما إلى ما يسمى بغياب المنظومة أو ضعف بيئة الأعمال التي تسمح بالاستفادة من هذه الابتكارات. تبذل الحكومات في تلك الدول جهودا مضاعفة للنهوض بهذا المحور الاستراتيجي، لكن تفتقد هذه الجهود حالات النجاح السريع والعملي التي يمكن الاستشهاد بها.
إذا نظرنا إلى الحالة الموجودة في مجتمع التقنية الحيوية سنجد أن المعادلة تتكون من شركات الأدوية والباحثين ومؤسساتهم والجهات الحكومية المسؤولة عن التشريعات المنظمة والتشريعات المحفزة لهذا الحراك. ودون أدنى شك، تفتقد المنظومة المحلية إلى كثير من العناصر المكملة لهذا الزخم. لكن، لا يمكن تجاهل النمو المتصاعد في بعض عناصر المعادلة، على سبيل المثال، نما عدد طلبات إيداع براءات الاختراع 45 في المائة خلال 2022. وهذا لا يعني بالضرورة الوصول إلى الكم أو النوع اللازم لنجاح المعادلة، لذا يتطلب الأمر التركيز بشكل أكبر على مسارات محددة ودقيقة ودعمها بشكل استثنائي وتجنب الدعم العام القابل للتشتت. مما لا شك فيه أن المملكة تشهد أحد أفضل مراكز النمو في الضخ الاستثماري لرأس المال الجريء في المنطقة، وهو مكون أساسي لمنظومة دعم الابتكار الحيوي. لكن، طبيعة الاستثمار في التقنية الحيوية تتطلب تفاعلا حاضرا من الشركات الكبرى مع الأصغر حجما والأكثر إبداعا. ولهذا قد يكون من المناسب مثلا مراجعة البرامج المحفزة التي تسرع عملية التفاعل بين الشركات الأكبر حجما مع الأخرى الجديدة والصغيرة، وهذا يتطلب عملية تجسير مبتكرة تقود ريادة الأعمال في هذا المحور المهم. إجمالا، يقع التفاعل بين الأوساط البحثية وعالم ريادة الأعمال في دائرة مهمة جدا لمستقبلنا، ولا أعتقد أن التركيز على التحديات يثبت استحالة صنع القيمة من هذا الحراك البحثي، لكنه كذلك لا يوصلنا إلى حلول سهلة وسريعة التطبيق. لذا، نحن بحاجة إلى مزيد من النقاشات الجادة والعملية القائمة على تجاربنا وتجارب الآخرين للاقتراب أكثر من معادلة النجاح.

إنشرها