جدل حول تسرب الماء؟
اجتمع ثلاثة شبان في أحد المقاهي الراقية في مدينة الرياض. شباب طباعهم وأمزجتهم ونظرتهم للأمور الحياتية اليومية مختلفة. قام بينهم جدل طويل لكنه جدل ليس على طريقة كارل ماركس أو أستاذه هيجل ولا على طريقة طه حسين أو أستاذه مرجليوث. هو جدل أقرب إلى أسلوب المنفلوطي من حيث سهولة العبارة مع سطحية المعنى. جدل بسيط يردد كثيرا في المجالس اليومية.
ثلاثة شبان كلهم حماس وتطلع وطموح. الأول عرف عنه سرعة النقد, وكثرة التذمر فهو على الرغم من طيبته التي تصل إلى حد السذاجة, إلا أنه ليس راضيا.. لا عن نفسه.. ولا عن الناس جميعا. زئبقي المزاج، يتكلم وهو مشدود الأعصاب، يتكلم متشنجا، رافعا صوته، محركا يديه يمنة ويسرة، يريد إقناع من يتحدث إليه بأي طريقة كانت.
أما الثاني فقد كان شخصا هادئ الطبع، كثير الصمت يستمع إليك بناظريه أكثر مما يستمع بأذنيه فهو بهذا يشجع الآخرين على الاسترسال في الحديث ويغري بالمزيد من الصراخ والكلام غير المباح.
أما الثالث فكان رزينا هادئا لا يخرج الكلمة إلا وقد وزنها بميزان الذهب، يتحدث بصوت منخفض هو أقرب إلى الهمس منه إلى الحديث الواضح، ومع هدوئه كان أيضا معنيا بزيه عناية ظاهرة، وكثيرا ما كانت يده اليمنى منشغلة بتعديل الجزء العلوي من (شماغه) ومع أن انشغاله المستمر بهندامه من أجل المحافظة على أناقته، إلا أن هناك فائدة أخرى من هذا الانشغال.. وهو إعطاء نفسه الفرصة في التروي والتفكير قبل الحديث.
قال الأول موضوع الماء من الموضوعات التي تشغل ذهن كل مواطن في المجتمع. الحقيقة على الرغم من الاهتمام المستمر والملحوظ من وزارة المياه والكهرباء، وعلى الرغم من الجهود التي بذلتها الوزارة في ترشيد صرف الماء إلا أن هذه الاهتمامات في توفير الماء وترشيد استهلاكه لا تزال دون المستوى المطلوب. بل هي أقرب للعمل الدعائي لوزارة المياه والكهرباء منه للعمل الجاد، نعم العمل الدعائي قالها بصوت مرتفع كأنما يريد أن يظهر شيئا من شجاعة.
نظر الجميع بعضهم إلى بعض ثم صمتوا. استغل الثاني صمتهم. وأطلق كلمة حق استفز بها الأول وقال بخبث, وبصوت موسيقي (بصراحة الوزارة ما قصرت) استشاط أخونا الأول, وتطاير من عينيه الشرر وقال الوزارة ما قصرت (الله يرحم الحال بس).. قالها وهو يهز رأسه ويجمع أنفاسه ثم أردف متكلما لنتفق مع أخينا أن الوزارة لم تقصر، وأنها بذلت جهدا تشكر عليه في ترشيد الاستهلاك. هل النتائج مع الجهد والمال المبذول مرضية؟ هل تسرب المياه وهدره توقف؟. اكشف على أي منزل أو أي عمارة، ستجد أن التسرب للماء أحد المشكلات الأساسية. الوعي مفقود عند المواطن, ومفقود أيضا عند المسؤول.
قال الثالث وقد عدل من جلسته.. ثقافة استهلاك الماء مفقودة فعلا.. لكن دعونا نتحدث بكل وضوح هل تسرب الماء مسؤولية وزارة المياه والكهرباء؟ الجواب لا بالطبع. مسؤولية الجميع. الثقافة مرتبطة بالتربية, والتعليم, والعادات والتقاليد والقيم المتراكمة من مئات السنين. مسألة الوعي في المحافظة على الماء لا توجد في ثقافة الإنسان العربي بشكل عام والإنسان السعودي بشكل خاص إنها مسألة مرتبطة بالـ (كلشر) culture. قالها باللغة الإنجليزية يريد أن يضفي على نفسه شيئا من الوجاهة العلمية، وأن يقنع المستمع إليه. أخونا الأول لم يقتنع بكلامه ولم يترك الصمت يستمر وإنما كعادته صرخ قائلا: يا إخوان ما دخل الثقافة هنا؟ أنا عشت في أوروبا سنوات طويلة، أقسم بالله أن (السباك) لم يدخل بيتي يوما، لإصلاح (سيفون) متسرب ماؤه أو حنفية معطلة لا تعمل. المسألة مرتبطة بجودة المواد الصحية المستخدمة في منازلنا. مواد صحية من أسوأ ما صنع في العالم، تباع في كل مكان لا يمضي على تركيبها شهر إلا وقد انتهت صلاحيتها وظهرت مشكلاتها.
قال الثاني والبسمة تعلو وجهه وقد انفرجت أساريره ألم أقل لكم إن وزارة المياه والكهرباء ما قصرت. المسؤولية هنا تقع على من سمح لهذه المنتجات الرديئة أن تباع في بلادنا. هل هي مسؤولية إدارة الجودة والنوعية؟ الإدارة التي نسمع عنها ونشاهد مبناها الفخم ولا نعرف عملها الدقيق. أم مسؤولية من؟ بصراحة أنا لا أعرف، ولا أملك جوابا. رفع الثاني رأسه وقال بصوته الهادي أنا لدي الحل.. حل سيجبر المواطن والمسؤول على مكافحة تسرب الماء, والحد من الإسراف وهو حل أثبت جدواه في تجارب سابقة.. لكن هذا الحل لن يعجب الناس ولن يعجبكم لذا لن أذكره. ألح عليه زميلاه بعد إعطائه وعدا بتقبل رأيه مهما كان وبعد طول المحاولة نطق صاحبنا وليته لم ينطق وليته وفر حله لنفسه ولم يذكره لكون النقاش تحول إلى صراع.
خلاصة حل صاحبنا هو رفع فاتورة الماء، وبذلك سيتولد الإحساس عند المستهلك وتنمو ثقافة ترشيد الماء. لم يكمل صاحبنا حديثه إلا وبادره الأول كعادته ولكن هذه المرة بلهجة أشد ممزوجة بالغضب قائلا حسبنا الله ونعم الوكيل، رأيك هذا سيثقل كاهل المواطن ويزيد أعباء مالية مع أعبائه المتراكمة وديونه التي لا يخلو إنسان اليوم من وجودها. حلك مرفوض جملة وتفصيلا فهو لن يجدي كثيرا في مكافحة تسرب الماء، ولن يعالج أنابيب وزارة المياه والكهرباء المتآكلة، ولن يقوم أحد بإصلاح السيفونات في المنازل لأنها إن صلحت مرة فسيعود لها العطل مرات بسبب رداءة المنتج، ثم ألم تفكر في الآثار على الصحة العامة لأن معظم الناس قد يحجمون عن الاستحمام وقد تنتشر الأمراض. بكل اختصار هذا الحل مرفوض لعدم توافر جدواه.
قال الثاني ما لم يؤخذ كله لا يترك جله.. لماذا لا ترفع الفواتير على المستثمرين من أصحاب العقارات والمؤسسات وحتى الدوائر الحكومية وعلى المطاعم والفنادق وحتى المساجد وغيرها. أعتقد أن هذا حل وسط لن يضر بالمواطن وسيجبر المستثمر والمسؤول على الاهتمام أكثر بتوفير الماء ومكافحة تسربه، وأيضا سيسهم في تنمية الإحساس بأهمية الماء وضرورة المحافظة عليه. سكت الجميع بعد ما قدموا ما لديهم من حلول ووعد أحدهم بنشر الموضوع في الجريدة، لعل القارئ الكريم يسهم معهم في إيجاد حل لهذه المشكلة الأزلية. وقبل أن يهموا بالانصراف قال أحدهم ناقشنا موضوع الماء ولم نناقش موضوع الكهرباء، مشاكله وهمومه وشجونه ودوره في السعودة، هل لا يزال مستمرا أم تغير؟ ووعدوا بنقاشه بكل جدية في اجتماعهم القادم.