إصدارات الاقتصادية

أبو تركي .. سليل المجد وحافظ العهد

أبو تركي .. سليل المجد وحافظ العهد

لا تخلو مكتبة في العالم من كتاب يرصد تاريخ وفكر وسيرة الملك عبدالعزيز آل سعود رحمه الله، الرجل الذي رحل عن عالمنا قبل أكثر من نصف قرن، لكن مآثره لا تزال باقية وحاضرة، فهو المحنك الذي جمع شمل هذه البلاد تحت رايته الخفاقة، وكلما تعمقت في سيرته ازددت تقديرا له ومحبة.
في ذكرى اليوم الوطني الـ92، نحتاج إلى أن نقرأ عن رجل بنى دولة من العدم، مستعيدا ملك أجداده في ظروف صعبة ومستحيلة، اجتاز أزمات طاحنة، جمع الشتات وأدار معارك أرضه الاقتصادية والاجتماعية، بعد أن وضع نصب عينيه السير على منهج آبائه في تأسيس دولة حديثة قوية، ينتشر الأمن في أرجائها مترامية الأطراف.
كتب كثير من الرحالة والمؤرخين، عربا وأوروبيين، عن المؤسس، وبحثوا في تاريخه ونشأته وفكره، وشجاعته برفقة 47 مقاتلا تقريبا فوضع اللبنة الأولى لأحد أكبر الدول العربية مساحة، وأهمها موقعا وتاريخا وثقلا سياسيا، وبهذا اليوم الاستثنائي، تبحر "الاقتصادية" في جوانب مختلفة من سيرته الناصعة، التي نستذكر فيها بطلا خالدا، ونستخلص منها دروسا في التاريخ.

القضاء على الخلافات
تنقل الكتب التاريخية عن السياسة الداخلية والخارجية للملك عبدالعزيز، وتتناول هذه ما أحدثه من نقلة نوعية فيها بكل إعجاب، إذ قضى على المشكلات التي ظهرت داخل بلاده وكانت عاملا قويا من عوامل تأخر نهضتها بحكمة وحنكة، ولولا اتصافه بهما لكفت مشكلة واحدة منها لتقويض أركان مملكته وإعادة الحالة إلى فوضاها السابقة.
وفي علاقاته مع الأشقاء والدول المجاورة، قضى على جميع الخلافات بينه وجيرانه في جميع الجهات، فأقام علاقاته بجارتيه الكويت والعراق في الشمال، واليمن في الجنوب، والإمارات العربية في الشرق، وبشرق الأردن في الشمال الغربي، ومصر في آخر أيام المرحوم الملك فؤاد، حتى أصبح موضع إكبار خصومه الأقدمين وإجلالهم واعترافهم بعبقريته وحسن سياسته، ثم تعاهد مع الدول الكبرى وبعث الممثلين السياسيين إلى عواصمها، وجعل لبلاده مركزا سياسيا لم تكن متمتعة به من قبل.
كتب عنه المؤرخ والأديب أمين الريحاني فأصاب حينما قال "قلت ولا أزال أقول: إن هذا العربي العظيم، ابن سعود، أصبح أنفذ العرب اليوم، وأسدهم رأيا، وأبلغهم حكمة، وأشدهم عزما، وأعدلهم حكما، وأكبرهم كرما وحلما، قلت ولا زلت أقول: إن هذه الأمة العربية لا تنهض إلا بمثل هذا الرجل"، فيما يدلل على أهمية الجزيرة العربية أمين سعيد، حينما ذكر في كتابه "تاريخ الدولة السعودية" أن سيرة الملك عبدالعزيز تؤلف تاريخا سياسيا كاملا، لا للدولة السعودية التي بناها بساعده وأقامها بحد حسامه، بل للشرق العربي كله، فهو من بناة نهضته وقادة سفينته، ومخططي تقدمه.

لمحات وثقها ابن خميس
في مخطوط "لمحات من تاريخ الملك عبدالعزيز"، للعلامة عبدالله بن محمد بن خميس "ولد في 1919، وتوفي في 2011)، الذي كشف عنه بعد وفاته بستة أعوام، كثير من القصص والتفاصيل عن المؤسس، وبحسب ما كتبه الإعلامي الراحل عبدالرحمن الشبيلي عن المخطوط، فقد حالت على ما يبدو ظروف ابن خميس الصحية قبل وفاته دون طبعه، وكان قد أعده للصدور بالتزامن مع الاحتفال بالذكرى المئوية لتأسيس المملكة في شكل طبعة أولية عام 1998 في 628 صفحة، مضيفا كثيرا من الوثائق والصور والخرائط إلى صفحاته، وفي ذيل الكتاب قائمة بنحو 300 عنوان من المراجع المهمة في التاريخ الوطني، مع التعريف بها ومؤلفيها.
في كتابه الكبير، استعرض المؤلف سيرة الملك المؤسس وحياته وعاداته وبرنامجه اليومي، وتعداد أفراد أسرته وسلالته، وأبرز الأحداث حسب تسلسلها الزمني، لكل عام من الأعوام الـ54 من حكم الملك عبدالعزيز، وتحدث فيه بالتفصيل مثلا عن أعوام الجدب والأمراض والأوبئة التي مرت على البلاد وصار الناس يؤرخون بها (مثل عام الجوع 1910، وعام مرض الطاعون المسمى شعبيا عام الرحمة 1916، وعام وباء الجرب 1920)، ووصف الصعوبات التي اعترضت سبيل المؤسس ورجاله، والمحن التي واجهوها في بداية مشروعهم للم شتات أقاليم شبه الجزيرة، وهم ينتقلون من معركة لأخرى، ومن معضلة لمثلها، ومن إقليم لآخر عبر الصحراء الشاسعة.
العلامة ابن خميس يعجب في كتابه كيف كان الملك عبدالعزيز آل سعود ملتحما بشعبه حتى إنه كان ينادى بعبدالعزيز فقط دون ألقاب من قبل آحاد الناس، في صورة من التلاحم قل أن يوجد لها نظير في العالم، واجتمعت حوله قلوب الساسة العرب، وكان حينها قائد أفقر الدول وأقلها في الموارد، وأتوا كي يروا حقيقة هذا العملاق الذي أجبرت عظمته الجميع على احترامه واحترام دولته وشعبه.
هل ننسى الملك عبدالعزيز رجل الكرم الذي فاض جوده وكرمه حتى عرفه الناس به، وامتد عطاؤه خارج الحدود، وهو من يعاني قلة الموارد وشظف العيش؟ وهل ننسى الملك والابن البار الذي يحمل أباه على كتفه ليطوف به حول الكعبة دون أن يسمح لأحد من أتباعه بذلك، يفعل ذلك وهو السلطان عبدالعزيز، والناس تسير في ركابه وتأتمر بأمره، وهو يأبى إلا أن يكون الابن البار لأبيه كما يجب أن يكون بر الوالدين.

المؤسس .. في عيون معاصريه
في كتاب ابن خميس، يذكر الملك عبدالعزيز كما يصفه ابنه الملك فيصل، وورد فيما قاله أن هناك مزايا تحلى بها الملك عبدالعزيز هيأت له أن يبني هذا الملك، أولها قوة الإيمان، وثاني هذه المزايا قوة إرادته، وشجاعته التي تبرز في أحرج المواقف، وأدق الظروف، وذكر على سبيل المثال أنه كان في موقعة تدعى "موقعة الحريق"، فدارت الدائرة أثناء القتال على جيشه، وهم الجنود بالفرار، فبرز في مقدمة الصفوف ممتطيا جواده ومتقلدا سيفه، ونادى "أيها الإخوان، من كان يحب عبدالعزيز فليتقدم، ومن كان يؤثر الراحة والعافية فليذهب إلى أهله، فوالله لن أبرح هذا المكان حتى أبلغ النصر أو الموت"، فسرت الحماسة والحمية في نفوس الجند، وعادوا فشدوا على أعدائهم، وكان لهم الفوز.
وثالث هذه المزايا -كما يقول الملك فيصل رحمه الله- حكمته وأناته في معالجة الأمور، وهو يتوخى حل المشكلات بالسلم أولا، كما أنه متسامح مع خصومه واسع الصدر، لا يدخر وسعا في استخدام المرونة ووسائل اللين، ولا يلجأ إلى الشدة حتى يستنفد هذه الوسائل.
أما أمير الكويت الشيخ أحمد الجابر الصباح رحمه الله، فقال عنه "من نعم الله على الجزيرة، أن يحكم فيها ملك عظيم الشأن، كالملك عبدالعزيز، عرفت جلالته وصحبته من 35 عاما، قبل أن يلي الحكم، وبعد أن وليه، فما غره الحكم ولا فتنه التاج والسلطان، وما برح الفارس الشجاع والقاضي العادل والسياسي المحنك".
وفي بناء الدولة، يقول العلامة المؤرخ خير الدين الزركلي في كتابه "شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبدالعزيز": عاش عبدالعزيز لطاعة ربه ورعيته وأبنائه ونفسه، لقد عمر ما بينه وبين الله فلم يعرف الشيطان إلى قلبه سبيلا، وكل حجر من بناء الدولة السعودية هو من صنع يده، وكل نظام أخذت به الجزيرة هو من وحي عقله، وكل خطوة تقدمت بها في مضمار الحضارة هي من ثمار تجاربه، 45 عاما من حياته لم يختلف في يوم منها برنامجه ونظامه إلا لطارئ، 45 عاما يتلى بين يديه في ساعة معينة كل يوم منها فصل من التفسير، وفصل من التاريخ، يختم على الأكثر بالمناقشة في أهم ما اشتمل عليه.
تجول المؤسس كثيرا في مملكته واسعة الأرجاء، وزار جميع مدن المملكة، كان يقول عن نفسه: "أنا قوي بالله تعالى، ثم بشعبي، وشعبي كله، كتاب الله في رقابهم، وسيوفهم بأيديهم، يناضلون ويكافحون في سبيل الله، ولست أدعي أنهم أقوياء بعددهم أو عددهم، لكنهم أقوياء إن شاء الله بإيمانهم".

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من إصدارات الاقتصادية