شجاعة مؤسس حارب الجهل والتأخر
"الله أكبر.. الحكم لله، ثم لعبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود".. كان لهذه الكلمات وقع عميق، تناولها المؤرخون والرحالة والكتاب، فوجدوا خلفها انتصارات عظيمة أسست لدولة مترامية الأطراف، هي اليوم تحجز مقعدها في مصاف دول العالم.
وجد المؤرخون في سيرة المؤسس منهلا لا ينفد، في سيرته وأخلاقه، وسجاياه، ونضاله وفتوحاته وانتصاراته العسكرية التي جعلت كتاب وسياسيي العالم يقدرونها، إذ عرف عنه قوة الإرادة، عبقري شديد الذكاء، ومفكر يخطو بخطى ثابتة، استطاع أن يؤسس الوحدة والنظام في مملكة واسعة لم يسبق لها أن عرفت السلام قط إلا على يده.
حلم التوحيد
في ذكرى اليوم الوطني الـ93، مدخلنا إلى حياة الملك عبدالعزيز، من حلمه الـذي تحقق قبل نحو مائة عام، إذ يؤرخ كتاب (التحدي الكبير) لنهاد الغادري تلك الحقبة، فيقول: لا يستطيع المؤرخ إلا أن يقف طويلا عند شخص الملك عبدالعزيز، فقد بدأ حملته عام 1901 بأربعين رجلا، وإذا هو بعد قليل ملك الجزيرة العربية، والرجل الأقوى والأعظم فيها، فما الذي حقق تلك المعجزة؟
من مطالعة تاريخ هذا القائد الفذ بالتفصيل، وقراءة ما كتبه عنه الذين عرفوه، يتضح أنه كان رجلا مؤمنا، وكان طموحه مقيدا بعقله، محدودا بإمكاناته، فلم يكن رجل مغامرات، رغم أن تاريخه – خاصة استعادة الرياض – يشبه أن يكون مغامرة تاريخية كبرى، كان رجلا ذكيا، متزنا، يعرف الممكن، ويقيد طموحه به، ولاشك أنه كان منذ البداية يتوق إلى أن يرى دولة عريضة متسعة، يسودها الأمن والنظام وشريعة الدين، وكان على شدته مرنا، وعلى عنفه وقوته طيبا، نبيل النفس، شهما عفا في انتصاره عن ألد خصومه، وأعطاهم فوق ما طمعوا به، لم يستبد به حقد، ولا أعماه مطمع، ولا أذن لهواه أن يقوده.
لم يحقق هدفه الكبير بضربة واحدة، بل سلك إليه طريق الزمن، والصبر والأناة، وحقق وحدة معظم الجزيرة، على مراحل تقاربت أو تباعدت، بحسب ما رأى وقدر من ظروفها، ولو أسعفته أحوالها لحقق وحدتها الكاملة، ما بين صحرائها وساحلها، ولأنجز أضخم ما أنجزه حاكم في تاريخ العرب.
شجاع لا يقبل الضيم
ارتبط اسم عبدالعزيز بـ"الشجاعة"، ففي كتاب (الملك عبدالعزيز آل سعود بين نصرة الله.. ونصر الله له)، من إعداد عبدالله بن حسين الموجان، يخبرنا قصة تأسيس المملكة وتوحيدها في كيان عظيم، متتبعا حكاية ذلك الرجل الذي اجتمع الناس من كل مكان لمبايعته، الفارس الشجاع الذي يدعوهم إلى تناسي ما حدث في الماضي، وإلى المحبة والتعاون والاستعداد للمستقبل.
وعن هذه القصة، يقول الشيخ حافظ وهبة، المستشار السياسي في ديوان الملك عبدالعزيز، إن هذه القصة تشبه قصص أبطال اليونان، وترينا عظم الأخطار التي أحاطت بابن سعود، فيما كتب آنذاك الصحافي نجيب نصار في كتابه "الرجل"، المنشور عقب توحيد المملكة بستة أعوام، أن الملك عبدالعزيز تعلم الصعود إلى مراقي العظمة، في مدرسة الإسلام كما تعلم فيها أبو بكر وعمر وعلي وخالد ومعاوية وغيرهم من الصحابة والكرام، وتمرن على الخشونة وشظف العيش والشدة.
ويستذكر الكتاب حوادث عن شجاعة مؤسس مملكة مترامية الأطراف، يؤكدها كتاب "شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز"، وتذكر حادثة نادرة لشجاعة بالغة لأزمته منذ أن كان صبيا لم يتجاوز الـ11 من عمره، وقد أخذ الغضب منه مأخذه، وهو يرى الأعداء يحيطون بالرياض، بلده الحبيب وعاصمة ملك الآباء والأجداد، وقد أخذ الحماس منه مأخذه، ورأى رجلا من الأعداء قد قتل فرسه، وراح يحمل على عاتقه كل ما خف حمله، طالبا النجدة، لكن عبدالعزيز – الصبي آنذاك – الشجاع الغيور على وطنه ومسقط رأسه، وثب على الرجل وضربه بسيفه ضربة أودت بحياته.
كان لا يقبل الضيم، وله قول مشهور في مناسبة رسمية، يقول فيه "قد فاتكم أن الراعي مسؤول عن رعيته، وقد فاتكم أن صاحب السيادة لا يستقيم أمره إلا بالعدل والإحسان، وقد فاتكم أن العرب لا ينامون على الضيم، ولا يبالون إذا خسروا كل ما لديهم وسلمت كرامتهم".
صقر الجزيرة
يقول فيه أحمد عبدالغفار عطا، صاحب كتاب "صقر الجزيرة"، إذا وقف المرء تجاهه شعر بضآلته تجاه جسمه الصلب الوثيق الفارع، وإذا نظر إلى وجهه زادته هيبة غير راغبة عن التحديق فيه، فيختلس النظر إليه، يتملى محياه الباسم، وطلعته القوية البارزة، وتفيض مهابته على مجلسه، فلا يطيق أحد الكلام إلا إذا مد له حبل تواضعه وسماحته، بل إن بعض من يحضرون للسلام عليه يفاجؤون بمهابته، فما يستطيعون النطق بحرف، فيبتسم لهم، ويهدئ منهم، ويستدرجهم إلى البوح بما في نفوسهم، ويدنو إليهم، ويسألهم عن حالهم حتى يتكلموا، ويشعروا كأنهم بمحضر صديق أو أب رحيم، ويفارقونه وما يزال في نفوسهم رنين صوته العذب، وذكريات عن تواضعه، وسماحة نفسه، ورجاحة عقله، وصفاء قلبه، وطيب سريرته".
ويضيف عن صفات المؤسس التي باتت قدوة ونموذجا لكل السعوديين "إن كرمه وجوده كان مضرب المثل، فقد روى الذين أرخوا سيرته بأنه كان جوادا سمحا لين العريكة، سريع النجدة، والنخوة، فقد كان يرى في المال أنه حطام الدنيا، والحطام فان، والروح باقية خالدة، ولقد نصحه أحد أصدقائه بالكف عن البذل والسخاء والكرم، فقال: (ما أغنت قارون خزائنه)".
شجاع جريء .. يحارب الجهل
المؤرخون والكتاب والرحالة رأوا بأم أعينهم ما كان يدور في الرياض، إذ يسجل الكاتب الأمريكي روي لبكيتشر عقب زيارته قوله: "كان من أبرز ما ظهر من صفات ابن سعود بعد استعادته الرياض: القوة، والشجاعة، والحيوية البالغة، والجاذبية الخلابة، والشخصية المحبوبة، وصواب الفكرة، والاستقامة التامة، مضافا إليها خلق المقدرة على العفو عن أعدائه من جهة، والشدة بل القسوة من جهة أخرى عند الاقتضاء"، ويتفق معه الكاتب الإنجليزي كنت وليامز بتوثيقه تلك المرحلة من تاريخ المملكة "من النادر أن تجد رجلا فيه المزايا التي تجمعت في ابن سعود: موفق، ظافر، ومصلح، ومبدع، مبتكر، وتقي، ورع، صالح، وإنسان لطيف مهذب، وجواد سخي، سمح، وراسخ، وطيد، متين، وذكي حاذق لبيب، وشجاع جريء مقتحم، نبيل في تواضعه، جليل في احتشامه".
لقد كان يحارب الجهل والتأخر، وفي كتاب (عبدالعزيز آل سعود وعبقرية الشخصية الإسلامية)، من تأليف د. عبدالعزيز شرف ومحمد إبراهيم شعبان، يتناول المؤلفان حياة حاكم مثقف أجمع المؤرخون على أنه كان متواضعا ولم يكن مغرورا، نشر العدالة والأمان، فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وأيقن أن العدل أساس الملك، واستطاع تحضير البادية، وقد سبر المستشرق المجري المسلم الدكتور عبدالكريم جرمانوس أغوار شخصيته حين قال عنه: إنه الملك الذي جرد السيف في سبيل دينه وعقيدته، يجمع في طبيعته روح الحرب وروح السلم، لا يقاتل الناس ولا يعتدي عليهم، إنما يحارب الجهل، ويقاتل الجمود، ويكافح التأخر.