مشروع وطني لإعادة الوئام والتلاحم في تايلاند
يبدو أن تايلاند في طريقها مرة أخرى نحو الخلافات السياسية من بعد ثمانية أعوام شهدت خلالها بعض الاستقرار في ظل حكومة عسكرية بقيادة الجنرال القوي برايوت تشان أوشا، "وصل إلى السلطة في 2014 من خلال انقلاب عسكري أبيض ضد حكومة مدنية كانت قد انتخبت بطريقة ديمقراطية في العام نفسه". صحيح أن تلك الأعوام تميزت بالصرامة المعروفة عن العسكر في تعاطيها مع المشهد المحلي، لكنها في المقابل أنقذت البلاد من شبح حرب أهلية كانت على وشك الوقوع بسبب الاستقطابات الحادة ما بين فريق القمصان الصفراء المؤيدة للملكية وفريق القمصان الحمراء المؤيدة لرئيس الوزراء الأسبق المثير للجدل إمبراطورية الأعمال تاكسين شيناواترا. نقول هذا في ضوء قرار صدر أخيرا من قضاة المحكمة الدستورية التايلاندية يأمر الجنرال برايوت، بالتنحي عن منصبه - مؤقتا - إلى حين تأكيد شرعية ولايته من عدمها.
جاء هذا القرار، الذي اتخذ بإجماع أربعة قضاة من أصل خمسة، مفاجئا حتى لرموز المعارضة التايلاندية أنفسهم ممن طعنوا أمام المحكمة بعدم دستورية بقاء الجنرال في السلطة بدعوى أنه تجاوز المدة القانونية المقررة وهي ثمانية أعوام. وسبب المفاجأة هو أن محاكم البلاد لطالما رضخت لمن في السلطة وحكمت لمصلحته في القضايا السياسية، لكنها هذه المرة اتخذت قرارا مختلفا، وإن لم يكن حاسما ونهائيا.
وبموجب هذا القرار، فإن على برايوت أن يسلم مهامه إلى الشخص الذي يليه في الترتيب الهرمي للجيش، وهو نائبه الجنرال براويت وونجسوان، لمدة مؤقتة، إلى حين الرد على إداعاءات المعارضة. غير أن المشكلة في قرار المحكمة هي عدم البت في مسألة منع برايوت من حضور جلسات مجلس الوزراء. فالأخير قد لا يحضرها كرئيس للحكومة، لكن بامكانه أن يحضرها بصفته وزيرا للدفاع، مع إمكانية ممارسة دور الآمر الناهي، خصوصا أن معظم أعضاء الحكومة من زملائه ورفاقه في السلاح.
وعلى الرغم من ذلك فإن المعارضة التايلاندية خرجت مبتهجة كأنها حققت نصرا مبينا في مواجهة مؤيدي الجيش الذين يتحججون بأن برايوت لم يتجاوز في السلطة المدة المقررة، بمعنى أنه يجب احتساب وجوده في الحكم من تاريخ الانتخابات التي أجريت في 2019 بموجب الدستور الجديد "الحالي" الذي دخل حيز التنفيذ في نيسان (أبريل) 2017، وليس من تاريخ قيادته لانقلاب 2014.
ومما لا شك فيه أن هذا الجدل يعكس مرة أخرى حالة الخلافات التي شهدتها تايلاند منذ ظهور تاكسين شيناواترا على مسرح الأحداث في أواخر التسعينيات بعد أن خلع زي رجل الشرطة وارتدى الملابس المدنية وشكل حزبا سياسيا، لكي يصعد من خلاله إلى السلطة ويحقق طموحاته اللامحدودة. صحيح أن الرجل نجح في تحقيق مآربه وحقق إنجازات حينما فاز بالسلطة وصار رئيسا للحكومة في 2001، لكنه راح يخسر تأييد فئات كثيرة من المثقفين والطبقة الوسطى المتعلمة وسكان المدن واستغلاله عواطف المهمشين والفقراء والفلاحين، واضطر في النهاية أن ينكفئ ويخرج من البلاد بعيد انقلاب عسكري في 2006 وصدور أحكام ضده بسوء استغلال السلطة، لكنه لم يتخل قط عن طموحاته، وظل صانعا للأحداث وموجدا للأزمات من بعيد، بدليل استخدامه ثروته الطائلة في انتخابات 2019 التي حل فيها في المركز الأول دون أن يتسلم السلطة مجددا بسبب فراره خارج البلاد. وكانت النتيجة أن السلطة ذهبت إلى الفائز في المركز الثاني وهو حزب بالانج براشارات المحافظ بزعامة الجنرالين برايوت وبراويت.
إن عودة التأزم إلى الحياة السياسية التايلاندية في أرجاء البلاد شبيهة بما كان عليه الحال قبل انقلاب 2014، ليس مجرد احتمال أو فرضية. فبمجرد صدور حكم المحكمة الدستورية بدأ البعض التجمع والاحتجاج في بانكوك، محاولا الضغط المبكر على السلطة القضائية لكي تواصل تحديها لجنرالات الجيش وتحسم أمر برايوت، قبل أن يستغل الأخير استضافة البلاد قمة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ APEC، المقرر انعقادها في منتصف تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، لتلميع صورته عالميا. وهذا العمل الاحتجاجي قد يتطور وتقابله أعمال مضادة، خصوصا أنه ليس من الواضح الوقت الذي تحتاج إليه المحكمة الدستورية لإعلان حكمها النهائي في قضية خلع الجنرال برايوت من عدمه.
دعونا نفترض صدور الحكم النهائي سريعا وبالصورة التي تتمناها المعارضة. إن من شأن ذلك أن تجرى انتخابات جديدة بحلول أيار (مايو) 2023 على أبعد تقدير. لكن المشكلة ستكمن مجددا في مدى نزاهة الانتخابات في بيئة منقسمة على نفسها إلى فريقين لكل منهما أدواته الخاصة غير المشروعة للتأثير في نتائجها. وفي تصورنا أنه بمجرد ظهور النتائج سيطعن كل فريق ضد الآخر وسيستل كل ما في جعبته لرفضها والتشكيك فيها وشحن أنصاره ضد أنصار الطرف الآخر، ليعود الاحتراب إلى الشارع وتتعطل الأعمال والأنشطة والسياحة التي تعد عصب اقتصاد البلاد. من هنا ترددت أنباء، مصدرها القوى المحافظة المؤلفة من رجال البلاط الملكي وكبار رجال الأعمال ورموز حركة القمصان الصفراء، حول قيام هؤلاء بالضغط على برايوت لكيلا يترشح في الانتخابات المقبلة أملا في عدم تصعيد الموقف. الجدير بالملاحظة أن فريق القمصان الحمراء قد بدأ الاستعداد منذ الآن لخوض المعترك الانتخابي المقبل عبر الرهان على السياسية المبتدئة باتونج تارن شيناواترا، "ابنة رئيس الحكومة الأسبق"، كزعيم مقبل للبلاد، علما بأن استطلاعات الرأي ترجح فوزها الذي سيتلوه حتما إصدارها عفوا عن والدها.
أخيرا، فإن كان هناك لوم يوجه إلى حكومة برايوت العسكرية، فهو أنها لم تستثمر أعوام وجودها الطويلة في الحكم لتقديم مشروع وطني جامع يعيد الوئام والتلاحم لتايلاند المعروفة بمملكة الحب والفرح.