ترشيد الطاقة .. مرحلة يجب التأسيس لها

ليست هناك قضية تنال الدرجة الرفيعة من الاهتمام العالمي بمثل ما تناله قضية الطاقة, فليس هناك تنمية حقيقية من غير تأمين مصادر معتمدة للطاقة, وتأمين مصادر الطاقة وسلامة خطوط نقلها هما اليوم المحور الأهم في السياسة العالمية وبالأخص لدى الدول العظمى, وحتى الموضوع البيئي الذي يتصدر هموم شعوب العالم يشتبك مع البيئة باعتبار أن استهلاك الطاقة وبهذه النسب العالية هو وراء غالبية المشكلات البيئية التي نعانيها اليوم مثل التلوث والانحباس الحراري, وأن خيار الطاقة النظيفة بات أمرا ضروريا لتأمين مستقبل العالم والحفاظ على النظام البيئي. موضوع الطاقة بات يشغل الجميع, فالسياسيون مهتمون بتأمين مصادر طاقة تمد حاجات بلدانهم التنموية, والاقتصاديون يبحثون بشأن أسعار الطاقة وتأثير ذلك في معدلات النمو الاقتصادي المحلي والعالمي, وعلماء المستقبل والمنشغلون بالأبحاث العلمية يجتهدون في إيجاد بدائل تضمن استمرار حضارة الإنسان على هذا الكوكب, وأهل البيئة يحذروننا أنه لا مستقبل للإنسان إلا بالاعتماد على مصادر طاقة نظيفة ومتجددة.
والمملكة هي من الدول المهمة جدا على خريطة الطاقة العالمية باعتبارها ثاني أكبر دولة منتجة للبترول ومن أكثر الدول استثمارا في القطاع النفطي, وبالتالي فمن الطبيعي أن يحظى موضوع النفط إنتاجا واستهلاكا وتسويقا, داخليا وخارجيا, حاضرا ومستقبلا, باهتمام المملكة, فالعوائد البترولية تشكل المدخل الرئيس للمملكة, والبترول هو حجر الأساس لقطاعنا الصناعي, وهكذا سلعة مهمة اقتصاديا بل مهمة استراتيجيا لا بد أن ننشغل بها على المستويات كافة, فالاستهلاك المحلي للمنتجات البترولية هو بحق موضوع مهم, ويجب أن يعالج بشكل موضوعي, وفي إطار الخطط التنموية المستقبلية. فمعدلات الزيادة السنوية في الاستهلاك المحلي التي وصلت إلى ما يقارب إلى 6 في المائة هي في حاجة إلى وقفة ودراسة متأنية تبحث في الأسباب الرئيسية لمثل هذه الزيادة العالية ومن ثم تحليل الخيارات المتاحة لمعالجتها. صحيح أن جزءا من هذه الزيادة يعكس النشاط الاقتصادي المتزايد في المملكة, خصوصا في السنوات الأخيرة, وجزء آخر من الزيادة يمثل نتيجة طبيعية لزيادة عدد سكان المملكة, الذي هو الآخر سيشكل عاملا مهما في موضوع الطاقة مستقبلا, إلا أن هناك نسبة وقدرا مهما من هذا الاستهلاك مرده عدم وجود بيئة استهلاكية مرشدة أدت إلى ممارسات أوصلتنا إلى هذا المستوى المرتفع من الاستهلاك للمنتجات البترولية في الوقت الحاضر.
أولا من المجدي اقتصاديا لنا أن نقلل من استهلاكنا للبترول محليا, لأن هذا سيكون لمصلحة عوائدنا البترولية, خصوصا في ظل توقعات مستقبلية بازدياد حاجة العالم إلى البترول مع احتمال خروج دول كثيرة من قائمة الدول المنتجة للبترول. وثانيا أن الترشيد في الاستهلاك لا يعني المساس بحاجات القطاعات الاقتصادية والصناعية لهذه السلعة المهمة, وبالتالي تأثر عملية التنمية كلها, لأن مفهوم الترشيد يعني معالجة الاستهلاك الزائد وغير المبرر, وبالتالي فهو استهلاك غير منتج للاقتصاد, وهذا غير أنه استهلاك ضار بالبيئة واستنزاف لمصادرنا البترولية. والترشيد يعني أيضا البحث عن خيارات تقلل من استهلاكنا وتعطينا النتائج والمتطلبات المرجوة أنفسها, فالترشيد حالة مطلوبة في كل الحالات, في حالة الندرة وفي الحالة العادية وكذلك في حالة الوفرة.
ولكن السؤال المهم الذي علينا أن نجيب عنه بكل وضوح ومكاشفة هو ماذا عملنا في الماضي والحاضر للتأسيس لمرحلة الترشيد التي نريد الوصول إليها التي باتت خيارا لا بد من الاهتمام بها اقتصاديا وعلميا وإعلاميا وثقافيا؟ فحالة الترشيد في الاستهلاك لا يمكن أن نحققها بمجرد تنبيه المواطنين إلى ضرورة الترشيد والتوضيح لهم خطورة البقاء على هذه المستويات العالية من الاستهلاك. ولا نستطيع أن ندفع بالمواطنين إلى الترشيد من خلال توجيه اللوم لهم بعدم تحمل المسؤولية والإسراف في استهلاك هذه المادة المهمة, فمعظم ممارسات المواطنين تتأثر بطبيعة البيئة التي يعيشون فيها, فهناك بيئة بطبيعتها مرشدة لسلوكيات الناس الاستهلاكية, وفي المقابل هناك بيئة بطبيعتها تنتج ممارسات استهلاكية غير مرشدة, فالترشيد إذا لا يقوم إلا بتأسيس بيئة مرشدة تنتج ممارسات استهلاكية مرشدة. حتى مقارنة استهلاك المواطن السعودي للمشتقات البترولية بشعوب الدول الأخرى هي مقارنة غير عادلة لأننا مرة أخرى نؤكد أن الترشيد مرحلة يؤسس لها وهي ممارسات يبنى ويخطط لها, ولا يعني هذا أننا نقبل بهذا الإسراف والاستهلاك غير المبرر للبترول, ولكن ما نريد قوله هو أن المطلوب أن نشخص العوامل الرئيسية والأسباب الفعلية وراء هذا الاستهلاك المتزايد ومن ثم نخطط بشمولية ونضع البرامج العملية للنزول بهذه المستويات العالية من الاستهلاك إلى مستوياتها الطبيعية.
وهناك نقاط يجب الالتفات إليها والاهتمام بها في إطار الترشيد, ويمكن أن نذكر بعض هذه النقاط وباختصار:
بناء ثقافة الترشيد: لا يمكن أن نطالب المواطن العادي بالترشيد في جانب معين وهو ليس عنده ثقافة الترشيد, فثقافة المجتمع باتت ثقافة استهلاكية وبشكل حاد, فالطفرة الاقتصادية التي جاءتنا في بداية السبعينيات وعادت إلينا في السنوات الأخيرة جعلت أكثرنا لا نعرف كيف ندير مصروفاتنا ولا نستطيع أن نرتب الأولويات في حاجاتنا. فلسنا فقط نعاني الاستهلاك الزائد عن الحاجة في مجال الطاقة, بل الأمر نفسه ينطبق على استهلاكنا في المياه والكهرباء والأمور الأخرى في حياتنا.
البيئة التنظيمية المرشدة: كلما كانت البيئة تشجع على الترشيد فإن الإنسان سيستجيب بشكل أكبر مع فكرة الترشيد, إذا كنا نحن من خطط المدن بشوارعها وأحيائها الحالية على أساس أن السيارة هي وسيلة النقل الرئيسية في حياتنا, ومن الطبيعي أن تكون النتيجة هذا العدد الكبير من وسائل النقل الخاصة, وبالتالي فالاستهلاك الكبير للموارد البترولية هو نتيجة هذا المنحى من التخطيط. ومثلا في البناء ما زلنا لا نلزم صاحب العقار باستخدام العوازل والتصميم بشكل يأخذ في الحسبان استهلاك الطاقة الكهربائية, والنتيجة أنه صار عندنا معدلات استهلاكية تشكل ضغطا على قدرتنا في بناء محطات جديدة. إننا في حاجة إلى أن نصمم وننظم كثيرا من أمور حياتنا آخذين في الحسبان استهلاكنا الموارد, فما دامت الموارد موجودة بشكل محدود فلا بد ألا يترك الاستهلاك خيارا مفتوحا للفرد, وهناك كثير مما يمكن فعله لترشيد مثل هذا الاستهلاك.
مصادر الطاقة البديلة: الاعتماد على مصدر واحد هو خيار سيئ في حد ذاته, فهناك اليوم تقدم علمي ملموس لإيجاد مصادر متنوعة, وهناك توجه للاعتماد على مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة. فإذا كنا نحن في بلد غني جدا بالبترول فنحن ربما الأغنى عالميا في الطاقة الشمسية ولكن هذه الطاقة لا نعيرها اهتمامنا. فإذا كانت دول مثل السويد والدنمارك تصطاد الشمس من وراء الغيوم ولساعات قليلة وتنتج منه مخزونا كبيرا من الطاقة الكهربائية فنحن أولى أن نوجه وجهتنا لهذه الشمس الساطعة طوال السنة لأخذ القليل من طاقتها النظيفة لتشغيل عربة الحياة عندنا.
البترول مورد رزقنا ووسيلة استراتيجية لبناء الحاضر والمستقبل, وبالتالي فنحن مطالبون بتعظيم عوائدنا الاقتصادية منه, ولهذا فليس الترشيد هو مجرد مطالبات ودعوات لتخفيض استهلاكنا للطاقة بأشكالها كافة, بل يجب أن ننظر إليها على أنها مرحلة من الضروري الوصول إليها ولكن بالتخطيط والإعداد والتأسيس لها, فالترشيد نقلة تنقلنا من حالة إلى حالة مغايرة لها, ولن ننجح في تحقيق هذه النقلة إلا من خلال ثقافة وممارسة وأنظمة جديدة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي