استحضار الماضي ورموزه في حروب الحاضر
الماضي له سطوة، لكن لا أظن من الحكمة بمكان أن تصبح الذهنية التي كانت سائدة فيه هي الحكم والمحك.
وللماضي رموز، منها ما تحتفي بها الشعوب، ومنها ما تذمها. إن كان الرمز من الفئة الأولى تقام له النصب ويدور على ألسنة الناس لحسناته وبطولاته، وإن كان من الفئة الأخرى يصبح مادة للتندر والاشمئزاز.
وإن رفعنا منزلة شخص أو حدث، قاربناه وقارناه برمز حميد في تاريخنا وإن حططنا من منزلة امرئ قاربناه وقارناه برمز ذميم في تاريخنا.
وتختلف نظرة الشعوب إلى الماضي. الرمز الحميد لشعب ما قد يكون مذموما لدى شعب آخر. وهناك تباين في النظرة إلى الماضي ورموزه حتى ضمن نطاق شعب واحد نتيجة اختلاف الثقافات والميول.
وتأخذ المقارنات بالماضي الألباب إبان الحروب والصراعات والخصومات بين البشر. حتى قبل استفحال الأمور، أي: عندما تكون الشعوب أو الدول في طريقها إلى الحرب مثلا، كل فئة تستحضر ما لديها من قراءة للماضي ورموزه.
وقد يحدث أن يستند الطرفان المتنازعان إلى الرمز ذاته من الماضي القريب أو البعيد للحط من قدر الغريم في الصراع.
ومن الرموز ما يتخطى الحدود الجغرافية والثقافات. هذه الرموز لها معان أبعد مما نحن عليه من موقف وميل. وهنا أيضا تختلف النظرة إلى الماضي ورموزه باختلاف الثقافة والدين والأيديولوجيا، إضافة إلى القرب والبعد من حيث الزمان والمكان.
والرمز ليس بالضرورة أن يكون شخصا أو حدثا من الماضي. النصوص الكتابية، خصوصا تلك التي يسبغ الناس عليها هالة من القدسية والسماوية، هي أيضا بمنزلة الرموز التي يتكئ عليها الناس في صراعاتهم.
لنأخذ ما يدور من صراع بين الأطراف المتنازعة في أي مكان في العالم قبل الولوج في لب الموضوع.
"من النادر أن تقرأ بيانا للمجموعات أو المنظمات أو حتى الدول التي هي في حالة حرب ونزاع مستمرين يخلو من تناص أو اقتباس مقدس لديهم.
وأحيانا أصاب بالهلع عندما ألحظ أن المتصارعين يتكئون على النص ذاته لتبرير أعمالهم وأفعالهم حتى إن كان الطرفان ينتهكان حقوق الإنسان أو يقومان بما لا يرضي الضمير البشري وما يطلبه الدين من رحمة بين الناس وشفقة على الضعيف وإحقاق مكارم الأخلاق".
راودتني هذه المقدمة الموجزة التي أراها بتواضع بمنزلة تقديم أو تأطير نظري للمقال وأنا أراقب الخطاب الذي يرافق الحرب المستعرة بين روسيا وأوكرانيا.
كل طرف يحاول تفسير ما يقع، والحرب تدور رحاها مخلفة وراءها دمارا واسعا، مستجيرا بالماضي ورموزه.
بيد أن أغلب التفاسير إن كانت من روسيا أو أوكرانيا وحلفائها الغربيين تدور في فلك الماضي واستحضار رموزه.
ولا أظن أن هناك شعوبا ترتعب من ماضيها القريب وليس البعيد مثل الشعوب الأوروبية التي لا تفارق ذكرى الحرب العالمية الثانية مخيلتها ولسانها، مستحضرة إياها ليل نهار برموزها وبشاعتها.
وتبقى الحرب العالمية الثانية أكثر الحروب في العالم بشاعة وقتلا وتنكيلا تتوجها المحرقة التي فيها جرى حرق الملايين من الناس الأبرياء وهم أحياء في أفران خاصة من الغاز شيدت خصيصا لهذا الغرض.
هذه الحرب ورموزها ومحرقتها لا تغادر بال الناس والساسة والحكومات.
لكن في ظني ينسى الغربيون ومعهم دول وشعوب أخرى في أي مكان من العالم أن إجراء مقاربات مع الماضي ومحاولة تطبيقها على الحرب الدائرة حاليا في أوروبا يرقى إلى مصاف لعبة خطيرة.
لا أظن من الحكمة توصيف زعماء روسيا أو أوكرانيا بأنهم نازيون، وأن الزعيم الفلاني هو بمنزلة هتلر اليوم.
ولا أظن من الحكمة القول: إن ما يقوم به طرف محدد يرقى إلى المحرقة، الجريمة التي لم ير التاريخ مثيلا لها وربما لن يكون.
رغم أن المحرقة رافقت الحرب العالمية الثانية وهي جزء من التراث الغربي، فإن اجترارها بهذا الشكل الرتيب والممل يشكل في رأيي إهانة للضحايا وهم بالملايين، ويظهر لنا سطحية القادة والساسة حتى المفكرين في الغرب، ويجعل حدوث شيء مقارب أمرا قد لا يكون عسيرا.
إن أردنا استيعاب أي صراع وتفسيره بغية فهمه مع أبعاده علينا دراسة جغرافيته. ولا أظن أن في إمكاننا فهم أسباب أي صراع ومآلاته خارج نطاق جغرافيته.
وهذا ينطبق على الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، وهي أخطر صراع يواجه الغرب بعد الحرب العالمية الثانية، وينطبق كذلك على أي صراع في العالم.
نحن أسرى جغرافيتنا قبل أن نكون أسرى لماضينا. الاستجارة بالماضي لفهم واقعنا الاجتماعي انتهاك لجغرافيتنا. الجغرافية التي تحدنا في الحاضر هي التي تقرر مصيرنا وليس ماضينا.