"اسكت وأنا أسكت"

نعم... فعلها الاثنان، ضحيا بالعالم، وخاصة بالدول النامية، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا...
ما الجديد الذي أتى به المجتمعون في لندن؟ لا شيء... هل لامس المجتمعون جوهر المشكلات؟ الإجابة... لا... هي مجرد حِزم إنقاذ... لا جديد، آمال وطموحات كبيرة تاهت في ضباب لندن.
لقد طبق الأمريكيون والصينيون المثل القائل "أسكت وأنا أسكت" وذلك عندما يكون كل طرف على علم بنقطة ضعف في الآخر... فلو رجعنا بالذاكرة أشهرا قليلة إلى الوراء، وتذكرنا تصريحات أوباما فور دخوله البيت الأبيض عندما قال "على الصين أن تعيد النظر في سياستها التجارية التي أغرقت الاقتصاد الأمريكي في بحار الأزمة بتحميله عجزا تجاريا ومديونية غير مسبوقة" سندرك أن هناك صفقة قد تمت في مدينة الضباب.
وفي المقابل، لنعود بالذاكرة إلى أسبوع ما قبل قمة لندن، ونتذكر تصريحات رئيس البنك المركزي الصيني، التي طالب فيها "بضرورة أن يكون موضوع الدولار، والبحث عن عملة احتياط بديلة، على طاولة التفاوض في قمة العشرين" وفي اليوم نفسه رد الرئيس الأمريكي بالقول إن "الدولار سيبقى عملة الاحتياط الدولية لفترة طويلة"... هل نستطيع أن نشكك أو ننكر هاتين الحقيقتين؟
ولكن ماذا حدث في القمة؟ لا شيء، توصلت القمة إلى قرارات هزيلة (مجرد حزم إنقاذ) والحديث عن تشديد التشريعات المالية، ما كانت تتطلب كل هذا الزخم. فهي هي مجرد أمنيات، ستنعش الأسواق المتعطشة إلى الأمل لفترة وجيزة، ولكن سرعان ما سنعاود السقوط في هاوية الأزمة... فقد ضحت بالدول النامية والفقيرة لتواصل تلك القوى الاستنزافية مسيرة النهب والابتزاز للعالم، مؤكد أننا سنخرج من هذه الأزمة كما خرجنا من أزمة الثلاثينيات، فلا يمكن لأزمة أن تستمر إلى الأبد، ولكن الوضع الحالي لا يضمن عدم الوقوع فيها بل يؤكد على حتمية الوقوع فيها طالما تجاهلنا جذور المشكلات.
بل إن، وبتحليل متعمق، نلحظ أن قرارات القمة بحد ذاتها تنطوي على تناقضات صارخة، وإليكم الدليل:
أكدت القمة على ضرورة تجنب التوجهات الحمائية، وأن منظمة التعاون والتنمية ستسجل وستعلن في سجل عالمي وتشهِر بالدول التي ستتوجه نحو الحماية، هذا هو أحد القرارات، أليس كذلك؟
القرار الآخر، وهو الخاص بمواصلة الدول (وخاصة الكبرى بالطبع) تقديم حزم الإنقاذ، مهما كان حجم تلك الحزم... أليس كذلك؟
ولكن، هل سنكون بصدد مبادلات تجارية عادلة في حال تطبيق هذين القرارين؟
ستستطيع بعض الدول الغنية تقديم حِزم إنقاذ، في مقابل غالبية من دول العالم (النامي طبعاً) تعجز عن تقديم حِزم مماثلة، مهما كان حجم الأرقام التي خصصتها القمة لمساعدة الدول النامية. فالمنتِج الأمريكي يحظى بدعم كبير وبحزم إنقاذ خيالية، في مقابل منتِج مصري غلبان يكاد يكافح شبح الانهيار بل والخروج من السوق، ولا يحظى بمثل حزم الإنقاذ التي يتمتع بها نظيره الأمريكي، وكل من المنتِج المصري والأمريكي يتوجهان بمنتجيهما إلى السوق السعودية على سبيل المثال؟
فهل نحن في ظل هذا الوضع نكون بصدد تجارة عادلة؟ هل بعد هذا الوضع نفرض أو نطلب من بلد فقير كمصر عدم اللجوء إلى الحماية؟ هل هذا هو العدل الذي تفتقت إليه أذهان "الكبار" في لندن؟
كنا نتمنى أن نشهد بالفعل بريتون وودز جديدة، كنا نتمنى أن توضع الولايات المتحدة أمام مسؤولياتها باعتبارها مهد الأزمات، كنا نتمنى أن يُعلن صراحة عن توجه نحو معيار جديد للمبادلات الدولية يحل محل الدولار، "وحقوق السحب الخاصة" هي أفضل بديل في الوقت الراهن؟ لو كانت الدول المجتمعة قد تحلت بالجرأة الكافية لاتخاذ هذه الخطوة، لضمنا بالفعل عدم تكرار الأزمة، ولكن بقاء معيار الدولار كفيل بمواصلة الولايات المتحدة رحلتها في استنزاف الاقتصاد العالمي، وإغراق مختلف الأمم في أزمات طاحنة، وفي مقدمتها الأمة الأمريكية.
حتى مشكلات التجارة الدولية والخلل الكبير الذي تشهده تحت مظلة التجارة العالمية، لم يتم التطرق إليها كلية، بل تم الاكتفاء بتخصيص 250 مليار دولار لتمويل الصادرات، ولكن ماذا عن الخلل الهيكلي، واستفادة قلة قليلة جداً من الدول من نمط التجارة القائم، على حساب أغلب دول العالم، ذلك النمط المترهل الذي غزا التوجه نحو الأزمة؟
ليس هناك من إجابة... فقد خرجت الصين سالمة من هذه القمة، حيث لم يتطرق أحد إلى سياساتها المدمرة للتجارة الدولية. فقد ضمنت الصين عدم التطرق لهذا الأمر طالما توقفت عن الحديث عن التخلي عن معيار الدولار، وكأن العالم ألعوبة في أيدي هؤلاء.
كما أنه وبدلاً من الحديث عن تطوير المؤسسات الدولية (كصندوق النقد والبنك الدولي) التي جرت العالم نحو الأزمة، تم "إعطاء القط مفتاح الكرار"، حيث سيتم وضع تريليون دولار بيد هاتين المؤسستين "الباليتين" لدعم الدول النامية؟ ولكن هل كانا يستحقان هذا التكريم؟ ألم يكن صندوق النقد هو قائد قاطرة الترير المالي والنقدي؟ ألم يكن صندوق النقد حتى قبل القمة بساعات يفرض شروطاً تعجيزية على الدول التي تطلب الائتمان أن يطلب منها خفض الإنفاق ورفع أسعار الفائدة؟!
كان أولى بزعماء القمة حل هاتين المؤسستين الغارقتين في الشبهات والمفتقرتين إلى الحيادية والنزاهة، وتشكيل جهاز دولي أكثر كفاءة وعدالة وأفضل تمثيلاً لمختلف دول العالم المتقدمة والنامية. فهاتان المؤسستان "الخارقتان" لم نسمع لهما صوت قبل الأزمة، ولم يصدر عن أي منهما أي تحذير، بل على النقيض من ذلك، شكلا أداة الغرق في وحل الأزمة، وبعد ذلك تخرج علينا قمة لندن وتكرمهما بتريليون دولار!!
على كل حال، لم يكن علينا أن نتوقع من اجتماع دام لساعات معدودة أكثر من هذا، فالمشكلة كبيرة وكانت تتطلب جهوداً أكبر، بل أياما يعكف خلالها القادة على وضع حلول حقيقية لجوهر الأزمة شأن ما حدث خلال بريتون وودز عام 1944م، ولكن الكبار رفضوا الدخول في التفاصيل، لأن الشيطان كما يقولون لا يظهر إلا في التفاصيل!
أقل ما يقال إن بوصلة الكبار تاهت في ضباب لندن، ضحى الكبار بالصغار، ولم يتطرقوا لأي من المشكلات أو الجذور الحقيقية للأزمة العالمية الراهنة... واكتفوا بالحديث عن حفنة من الأموال لا أحد يعرف كيف سيتم تدبيرها، وكيف سيتم توزيعها، ومتى سيتم ذلك، بل أوكل أمر توزيعها لصندوق النقد والبنك الدولي كمكافأة لهما على إنجازاتهما الخارقة خلال العقود الماضية!!
كنا نتمنى أن تكون هذه القمة قمة مكاشفة، تعكس بحق حجم الكارثة التي يعايشها العالم، فالحديث عن وضع التشريعات التي تقيد الجهاز المصرفي، هو حديث سابق على القمة، ولم يكن ليستحق قمة بهذا الحجم وهذا الزخم. فحتى لو عادت وتيرة النشاط الاقتصادي العالمي – وستعود بطبيعة الحال لأننا لن نبقى في الأزمة للأبد – فلن نضمن عدم الوقوع فيها مرة أخرى طالما ظلت أسباب المرض دون علاج ناجع. والله أعلم

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي