Author

أشباه الموصلات .. الأزمة المستمرة

|
كاتب اقتصادي [email protected]
المعاناة التي تواجه الحراك الصناعي العالمي عموما، بسبب النقص في صناعة وتوريد ما يعرف بأشباه الموصلات أو الرقائق الإلكترونية، ليست جديدة. والأزمة التي تركها هذا المنتج الصغير بحجمه المحوري بأهميته ستستمر حتى عام 2023، وفق تقديرات الجهات المختصة. ورغم انفراج الأوضاع الاقتصادية بعض الشيء في أعقاب هدوء الأزمة التي خلفها وباء كورونا، إلا أنه ليست هناك مؤشرات تدل على إمكانية حلحلة مشكلة أشباه الموصلات. فالوباء الذي ضرب العالم، لم يكن سببا في تفاقم أزمة هذا المنتج. صحيح أنه أسهم في وقف تدفقه إلى المصانع وخطوط الإنتاج التي تحتاج إليه، لكن الصحيح أيضا أن توريد المواد الأولية والمصنعة تعرض أيضا إلى اختناقات مفزعة، ولا سيما مع تراجع حراك النقل والشحن حول العالم. ويبدو واضحا أن هذا الجانب سيكون حاضرا على الساحة الدولية لوقت لن يكون قصيرا أيضا.
تدخل أشباه الموصلات في كل الصناعات تقريبا فهي موجودة بالطبع في الأجهزة الإلكترونية والموصولة، مثل الهواتف الذكية، وأجهزة الكمبيوتر، ومشغلات ألعاب الفيديو والسيارات، والطائرات والشبكات المعلوماتية والهاتفية وغير ذلك من منتجات صارت منذ عقود جزءا أساسيا في الحياة العامة. هذه الرقائق ببساطة تسمح لكل الأجهزة الإلكترونية بالتقاط البيانات وتخزينها، ولولا هذه الخاصية لا قيمة لأي جهاز إلكتروني. النقص في الرقائق ضرب خطوط الإنتاج حول العالم. فوفق البيانات الخاصة بصناعة السيارات في عدد من الدول الآسيوية فإن مصنعي الرقائق لم يلبوا سوى 20 في المائة من الطلب على منتجاتهم في صيف هذا العام، والأمر على الساحة الغربية ليس أفضل. فصناعة السيارات الأمريكية تأثرت بصورة كبيرة في الأشهر الماضية نتيجة هذا النقص.
يطرح كثير من الناس سؤالا مستحقا في هذا المجال، إذا كان الطلب الكبير على الرقائق الإلكترونية بهذا الشكل، وإذا كانت المصانع على اختلاف منتجاتها لا يمكنها أن تعمل دون هذه الرقائق، لماذا لا يتم إنشاء مصانع وخطوط إنتاج لها سريعة؟ بمعنى آخر، لماذا لا يتقدم المستثمرون إلى هذا الميدان، وهم يعرفون أن الطلب لا يمكن أن يتراجع على الإطلاق؟ المشكلة هنا تكمن في عاملين اثنين. الأول أن الاستثمارات في إنشاء المصانع الخاصة بإنتاج الرقائق الإلكترونية ستكون مرتفعة القيمة، والثاني أن المدة الزمنية لعملية الإنشاء وبدء الإنتاج ستكون طويلة، وفق ما قاله المختصون في هذا المجال. فبناء مرافق التصنيع يستغرق في أقل تقدير أعواما عدة. أضف إلى ذلك، أن الصناعات التي تعتمد على أشباه الموصلات، لا تفضل الاستثمار فيها، طالما أن بإمكانها الحصول عليها من جهات أخرى.
لكن مع استفحال أزمة النقص في الرقائق الإلكترونية، بدأ بعض المصانع الكبرى المنتجة للسيارات والإلكترونيات التفكير في الدخول إلى ساحة هذه الصناعة، بصرف النظر عن التكاليف والمدة الزمنية الطويلة. فعلى سبيل المثال، تتعرض شركات صناعة السيارات إلى نقص شديد في إمدادات الرقائق، مع ارتفاع الطلب على أجهزة الكمبيوتر والمعدات الخاصة بالتواصل عن بعد، في أعقاب الحجر الصحي الذي اعتمده العالم في مواجهة جائحة كورونا. هذا الارتفاع في الطلب زاد بالطبع أسعار المنتج المشار إليه، الأمر الذي أضاف مزيدا من تكاليف الإنتاج على شركات السيارات، مع ضرورة الإشارة، إلى أن السيارة الواحدة تحتاج من 50 إلى 150 شريحة إلكترونية، في حين تشكل تلك الرقائق 40 في المائة من مكونات السيارة.
تقدر تكلفة إنشاء مصنع واحد للرقائق ما بين أربعة وخمسة مليارات دولار، في حين تشير التوقعات إلى أن هذه التكلفة ستصل قريبا إلى 20 مليار دولار. ورغم أن هذه الأموال يمكن أن تضخها أي شركة استثمارية كبيرة، إلا أن الجانب الأهم هو المدة الزمنية الطويلة لبدء الإنتاج. وهناك تحركات حقيقية تم الإعلان عنها لإطلاق عدد من المصانع، إلا أن هذا لن يحل أزمة نقص الإمدادات التي دفعت أكبر شركة لصناعة الرقائق "تي إس إم سي" التايوانية إلى رفع أسعار منتجاتها بما يصل إلى 20 في المائة. بالطبع هناك، تحركات أيضا لضخ استثمارات في بعض مصانع الرقائق الموجودة أصلا، وتحديدا في الولايات المتحدة وسنغافورة وألمانيا. وهذا الأمر سيوفر وقتا حتى أموالا، إذا ما تمكنت هذه المصانع من توسيع نطاق إنتاجها عبر الاستثمارات الجديدة.
ولأن هذا الأمر يمثل خطورة حقيقية على الصناعة عموما، أولى الرئيس الأمريكي جو بايدن أهمية كبيرة له، في إطار المواجهة التجارية الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين. وهذه الأخيرة تسيطر على حصة كبيرة في مجال صناعة أشباه الموصلات، رغم أن مصانعها تضررت هي الأخرى في الفترة السابقة من نقص هذا المنتج المهم. وبدأ بايدن يتحرك بالفعل منذ وصوله إلى البيت الأبيض، من أجل تمويل مجموعة من الإجراءات لتحفيز تصنيع الرقائق في الولايات المتحدة، وهذه الإجراءات أطلق عليها اسم قانون الرقائق. حتى إن بعض المسؤولين في الإدارة الحالية بواشنطن، ينظرون للمسألة من جانب الأمن القومي، من فرط أهميتها في القطاع الصناعي المتقدم عموما. لكن حتى التحرك الأمريكي هذا يتطلب وقتا، لتظهر نتائجه على الأرض.
إنشرها