إيران و"القاعدة" .. وجهان لإرهاب واحد
يتردد على الألسن، منذ أزيد من عقد، استفهام حيال دواعي استبعاد تنظيم القاعدة دولة إيران، ضمن نطاق دائرة أهدافه وعملياتها، فلم يسجل أن هاجم أعضاء "التنظيم" أهدافا داخل الأراضي الإيرانية، رغم جهر تنظيم القاعدة المتطرف بمناصبة العداء علانية لنظام المرشد الأعلى للجمهورية الشيعية، وتفكير الإيرانيين الروافض والصفويين والمجوس.
ظاهريا، تبدو الإجابة عن هذا السؤال عصية، في ضوء المعارك الكلامية والحروب الإعلامية المشتعلة بين الطرفين. لكن إمعان النظر في بعض التفاصيل، وربط هذه الإشارات بتلك، ووصل أحداث سابقة بأخرى لاحقة، تساعد المتتبع والمهتم بصياغة تأطير شامل للمشهد، يفيد في بسط عناصر الجواب عن العلاقة الرابطة بين تنظيم القاعدة ودولة إيران.
من نافلة القول، أن الأيديولوجيا أو العباءة الطائفية أمر ثانوي في السياسة الخارجية الإيرانية، فعبر التاريخ تعاملت طهران، بشكل علني، مع جل التنظيمات في المنطقة، رغم الفوارق العقدية والمذهبية. لا مشكلة لدى نظام الملالي في التعاون مع أي حركة أو تنظيم يخدم أجندة طهران، محليا أو إقليميا أو دوليا، وذلك عملا بالمبدأ الميكيافيلي "عدو عدوي صديقي". واضح أن إيران وضعت هدفا بعيد المدى يتمثل في السيطرة على قيادة الجماعات المتطرفة، لذا تفتح لهم أبوابها، وتشرع لهم العمل على أراضيها، أملا في ضمان توسيع دائرة وكلائها في العالم.
هذا ما يفسر علاقة "القاعدة" بطهران، فهي قطعا ليست وليدة السياق الراهن، بل ممتدة في التاريخ لعقود زمنية. وهذا ما دفع باحثين إلى تقسيم هذا التعامل إلى أربع فترات: بدءا من حقبة التسعينيات، تلتها فترة قبل أحداث 11 أيلول (سبتمبر) وبعدها، ثم ما بعد سقوط صدام حسين، وأخيرا ما بعد الثورة في سورية، ما يؤكد أن الطرفين كانا دائما على اتصال، والتراشق الإعلامي بين الفينة والأخرى أسلوب لدغدغة عواطف الحشود والأنصار.
علاقات زمن التسعينيات
منذ بدء مرحلة الجهاد الأفغاني، نهاية سبعينيات القرن الماضي، تحولت إيران إلى محطة عبور لعديد من القادمين من دول عربية وإسلامية نحو أفغانستان. كما وفرت طهران - بحسب دراسة للباحث برايس لويدولت في دورية "دراسات في الصراع والإرهاب" - أماكن لتدريب أعضاء تنظيم القاعدة في الداخل الإيراني، وفي وادي البقاع في لبنان. أكثر من ذلك، كان انتقال "القاعدة" إلى أفغانستان تم تحت إمرة وأعين ومراقبة الأجهزة الأمنية في إيران.
تعزز التعاون بين الفريقين خلال حرب البوسنة والهرسك، فشهادة لسعيد قاسمي الجنرال المتقاعد في الحرس الثوري الإيراني، الذي يشغل حاليا منصب أمين عام جماعة "أنصار حزب الله" في إيران، تفيد بأن عناصر الحرس الثوري الإيراني دربوا مسلحي "القاعدة" في البوسة، بعدما انتحل هو ورفاقه صفة عمال إغاثة في الهلال الأحمر الإيراني، وذلك بهدف تدريب عناصر بوسنية مقاتلة هناك. وأكد أن عناصر "القاعدة" تعلمت كثيرا من رجالات الحرس الثوري، فقد كانوا يقاتلون معا وجنبا إلى جنب في البوسنة.
أكد قيادي آخر في الحرس الثوري، وهو حسين الله كرم، هذا الاعتراف، عادّا "علاقة "القاعدة" بإيران لها عدة مستويات، فكان هناك فرع لقوات البوسنة والهرسك، وكان مرتبطا بنا بطريقة أو بأخرى. وعلى الرغم من أنهم كانوا يتدربون في مقر القاعدة، لكن عندما يتسلمون أسلحتهم كانوا ينضمون إلينا لأسباب مختلفة". ولم تكن هذه المرة الأولى التي يعترف فيها مسؤولون في النظام الإيراني بتعاون طهران مع "القاعدة" سواء في البوسنة أو في أفغانستان أو غيرهما.
منعطف الثلاثاء الأسود
تذهب أغلب الكتابات إلى أن العلاقة تغيرت، بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، نظرا إلى مخاوف "القاعدة" حول سمعتها كتنظيم سني يتعاون مع إيران الشيعية، لكن واقع الحال يثبت أن العكس تماما هو الصحيح، فبعد سقوط نظام "طالبان" في أفغانستان، بات وضع تنظيم القاعدة غير مستقر في الدولة، ما دفع قيادة التنظيم إلى البحث عن ملاذ جديد وآمن لمقاتليها، لذا دخلت في مفاوضات مع طهران أفضت إلى توفير ملاذ آمن لبعض أعضاء التنظيم وأسرهم في أراضيها، بداية من عام 2002. يتعلق الأمر - وفق تقديرات - بزهاء 500 عائلة متطرفة، بينهم بعض أبناء أسامة بن لادن زعيم التنظيم، ومحمد صلاح الدين زيدان، الرجل الثاني حاليا، المعروف باسم "سيف العدل".
لكن هذا الاحتضان لم يكن مجانيا، فإحدى وثائق "أبوت أباد" التي عثر عليها من بين 470 ألف وثيقة التي تم الحصول عليها، بعد مقتل أسامة بن لادن زعيم التنظيم في عام 2011، تفيد بأن إيران اشترطت عليهم عدم الدخول إلى ترابها عبر الطرق الرسمية، وإنما تهريبا، ومنعت أعضاء التنظيم من القيام بأي أنشطة على الأراضي الإيرانية، كما طلبت منهم عدم توظيف الإيرانيين في أنشطتهم.
يذكر أن تقارير لجنة هجمات 11 سبتمبر أثارت كثيرا من الاستفسارات حول دور إيران في القضية، أفادت بأن عناصر "القاعدة" الذين كانوا يريدون الذهاب إلى أفغانستان أو أي مكان آخر، طلبوا من السلطات الإيرانية ألا تختم جوازات سفرهم، وهذا ما أكدته تصريحات محمد جواد لاريجاني معاون السلطة القضائية الإيرانية، على التلفزيون الإيراني، حين علق على ما جاء في تلك الوثائق "حكومتنا وافقت على عدم ختم جوازات سفر بعضهم، لأنهم عبروا بشكل رحلات "ترانزيت" لمدة ساعتين، وكانوا يواصلون رحلتهم دون ختم جوازاتهم، لكن كل تحركاتهم كانت تحت إشراف المخابرات الإيرانية بشكل كامل".
تنسيق وتبادل مصالح
تظهر وقائع وأحداث، من حين إلى آخر، تسعى إلى نفي أي علاقة بين الطرفين، من قبيل وجود عدد من مقاتلي "التنظيم" في السجون الإيرانية، تضاف إلى الحرب الإعلامية التي تدور رحاها ضمن حدود مرسومة سلفا، لكن المدافعين عن هذا الطرح يجهلون أو يتجاهلون أن التنسيق والتعاون الإيراني مع "القاعدة"، وحالات الاصطدام التي تظهر هنا وهناك غالبا ما ترتبط بفروع أو أعضاء يعلنون الولاء لقيادات أخرى، فأتباع أبو مصعب الزرقاوي مثلا لم تكن تروق لهم العلاقة الودية بين قيادة "القاعدة" وطهران، وهو ما دفع بالأخيرة إلى فرض شبه إقامة جبرية عليهم، بخلاف الآخرين الذين كانوا يتنقلون بحرية داخل إيران.
هذا الخلاف الظاهري مفيد للطرفين حتى لا يفقدان شرعيتهما لدى الأنصار، فتدخل "القاعدة" لإطلاق سراح هؤلاء يمنحها شرعية الإمساك بزمام "التنظيم" أمام أنصارها، وفي المقابل ترويج الإعلام الرسمي الإيراني أخبارا عن وجود أفراد "التنظيم" في السجون الإيرانية، يعزز شرعية النظام ويظهره قويا في وجه "الاعتداءات الخارجية"، ما يعني أن كلا الفصيلين، مستفيد من التشنجات الطارئة على العلاقة بينهما. وامتد التعاون والتنسيق بعيدا عن الأراضي الإيرانية، بعدما ضغطت إيران لإجبار النظام السوري على السماح لقيادات من جبهة "النصرة" خلال الحرب السورية، بالانتقال من درعا في الجنوب السوري نحو منطقة إدلب في شمالها.
تبدو الميكيافيلية المشار إليها سلفا "عدو عدوي صديقي"، واضحة في الاقتباس الذي نجده ضمن الرسائل الـ 17 الخاصة بالعلاقة بين الطرفين، الواردة في حزمة أرشيف "أبوت أباد"، حيث يقول أسامة بن لادن قائد التنظيم في إحداها "إيران هي شرياننا الرئيس للأموال والأفراد والاتصالات. لا داعي للقتال مع إيران، إلا إذا أجبرتم على ذلك". ينقل التقرير السنوي عن مدير مكتب مكافحة الإرهاب في وزارة الدفاع، من جانبه، أن "إيران تسمح لـ "القاعدة" بالتحرك ونقل المقاتلين والأموال إلى دول الجوار بحرية تامة".